بدء محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك في مصر هو بالتأكيد حدث من نوع خاص.. سابقة لم يشهد العالم العربي مثيلا لها.. إشارة قوية لمن يريد التقاطها من الحكام العرب على اختلاف مستوياتهم في المسؤولية.. رسالة مكتوبة بالبنت العريض، ودون شفرات أو رموز موجهة لكل من يهمه أمر تسيير الشان السياسي في العالم العربي.. نقطة تحول مهمة في تاريخ العلاقة بين الحاكم والمحكوم على امتداد جغرافية الوطن العربي من الماء إلى الماء، كما كان يحلو ل"الأخ العقيد" أن يقول أيام صولاته القومية المشهودة.. لا يهم منطوق الحكم ولا مفهومه، ما دام رمزٌ من رموز الفساد السياسي والاقتصادي في العالم العربي قد رضخ لإرادة شعبه، ووقف أو اضطجع وراء القضبان، يحاسَب على جرائمه السياسية والاقتصادية والإنسانية.. فالمهم أن يدرك الحكام العرب أن لا أحد فوق القانون، وأن لا أحد فوق المحاسبة والمساءلة، وأن لا أحد سيفلت من العقاب إذا أجرم في حق شعبه أو بعض أفراد شعبه.. درس بليغ لقنته لنا هذه المحاكمة، وإن كانت ما تزال في بداياتها.. وعلينا جميعا، حكاما ومحكومين، أن نعي أبعاده وخلاصاته، وأن يكون تقليدا متبعا في حق كل من أخل بواجباته السياسية والقانونية.. فبريق السلطة، أحيانا، أو على الأصح غالبا، يعمي البصيرة، ويصيبها بغشاوة تحجب الحق، وتزيّن الباطل، وتؤدي بصاحبها إلى انحرافات ومزالق لا يدرك خطورتها، ما دام الضمير غافلا، والبطانة غارقة بدورها في مراتع الفساد والنهب والإثراء الفاحش وغير المشروع.. نأمل كثيرا من هذه المحاكمة، التي نرجو أن تكون تاريخية، بقدر تاريخية الثورة التي أدت إليها.. نأمل أن تكون عادلة، كما كانت السماء عادلة مع الشعب المصري يوم خلصته من هذه الديكتاتورية الضاربة بعمق في جذور الدولة ودواليبها.. نأمل أن تنصف الشعب الذي لم يفقد ثرواته المادية فقط بسبب النهب والسطو عليها من قبل زبانية النظام، ولكنه فقد أيضا، تحت ظل هذا النظام، مكانته بين الدول العربية، وفقد مجدا بناه بالدم والتضحية والنضال الحقيقي، وفقد رمزيته في الذاكرة الشعبية العربية، يوم كانت مصر ملجأ الأحرار والمناضلين الشرفاء في كل بلاد العرب، ويوم كانت نصيرًا لكل الحركات التحررية الشريفة في هذه البلاد.. نأمل أن تنصف شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير، حتى لا يذهب دمهم هدرا.. نأمل، بعد كل هذا أن تنصف كل الشعوب العربية التي تعلق عليها آمالا كبرى، ما دامت تفتح سجلا جديدا من تاريخها.. لذلك لا نريدها محاكمة سريعة وعاجلة، على غرار ما جرى في تونس من إساءة لثورتها، وإجهاض لآمال شعبها الذي أيقظ العالم العربي من سباته، وشق أمامه طريقا ما كان أحد يتصور أن تصبح سالكة نحو التخلص من كل الديكتاتوريات المتعفنة..( ولعل ما يترجم إحباط الشعب التونسي من تحول مسار الثورة، إزالة صورة البوعزيزي مفجر هذه الثورة، من نصبها التذكاري بمسقط رأسه سيدي بوزيد).. لذلك نأمل من المحاكمة أن تأخذ من الوقت ما يكفي، لضمان سيرها العادي والقانوني، الذي لا يغبن أحدا، ولا يجحف في حق أحد.. نأمل أن تعطى الكلمة لكل الأطراف، حتى تلك القابعة وراء القضبان.. لأنه يهمنا كثيرا أن نعرف كيف ستدافع عن نفسها، وكيف ستبرر كل هذه الجرائم التي ارتكبتها في حق شعبها.. يهمنا ذلك بالتأكيد حتى يستفيد منه بقية الحكام، ويدركوا أن حبل الكذب، مهما طال، قصير، وأن كل محاولة للالتفاف على الحق محض خدعة سرعان ما تنكشف أحابيلها، وأن كل المبررات، كيفما كان نوعها أو قوتها، لا يمكن أن تسوِّغ لمسؤول نهْبَ خيرات بلاده، وتقتيلَ أبناء شعبه، وتشويهَ سمعة وطنه، والدوسَ على كرامته.. لا نريد أن نضرب المثل دائما بالغرب وبديمقراطيته، فتلك أسطوانة لُكناها بما يكفي من الإعجاب والانبهار.. لقد آن الأوان لنقدم الدليل على نضج شعوبنا، وعلى أنها قادرة على أن تعطي هي أيضا المثل لغيرها من الشعوب.. ولكننا، مع ذلك، لا بد أن نعترف بالفضل لذويه.. فديمقراطية الغرب لا تعفي الرئيس من المتابعة القضائية إذا ثبت تورطه في ملف من ملفات الفساد.. فلا أحد هناك منزّه أمام القضاء.. كل المواطنين سواسية، بغض النظر عن صفاتهم ومراكزهم السياسية أو الاجتماعية.. وكل من ثبتت إدانته يتحمل مسؤولياته كاملة ويدفع ثمن جُرمه تاما غير منقوص.. ويكفي أن نشير تمثيلا، إلى ما يحدث الآن مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي لم يشفع له ماضيه الرئاسي من محاسبته على الفساد المالي الذي يُتهَم به أيام كان عمدة للعاصمة الفرنسية.. ولم تمنع حالته الصحية القضاء الفرنسي من أن يأخذ مجراه.. نستحضر ذلك لأن ما نُسِج من تهويل عن الحالة الصحية لمبارك وعدم قدرته على حضور جلسات المحاكمة، لا يعدو أن يكون ضربا من التملص والمخاتلة.. وقد نجح إلى حد ما في استدرار عطف البعض عليه حين بدا مضطجعا خلف القضبان، دون أن ينجح كليا في محو صورته السابقة الملطخة بدماء أبناء شعبه والمكتنزة بخيراته.. كما لم يفلح نجلاه في لعب دور التقوى، حين ظهرا في المحاكمة وهما يحملان المصحف الشريف!!! حركات "فهلوية" كما يقول أشقاؤنا المصريون، لا يمكن أن تنطلي على أحد، ولا أن تخدع شعبا له من الذكاء والفطنة والخبرة الطويلة بفنون المسرح والتمثيل، ما يميز به بين ما هو تمثيل مكشوف، وواقع حقيقي.. وما دمنا بصدد الحديث عن العائلة، لا ننسى ما طلعت به بعض الصحف والقنوات الفضائية عن التهديد الذي وجهته سوزان ثابت، زوجة مبارك للحكام العرب إذا لم يتدخلوا لمنع محاكمتها ومحاكمة زوجها وابنيهما، وذلك بنشر شرائط وتسجيلات مخلة بالأخلاق والآداب، تتضمن فضائح جنسية أبطالها حكام وأمراء عرب، تحتفظ بها في خزينتها الخاصة بعد أن سلمها لها وزير الإعلام السابق صفوت الشريف الذي أشرف على تصويرها، مستعينا بفتياتِ إعلانات وممثلاتٍ وراقصات.. ويبلغ عدد هذه التسجيلات أربعين تسجيلا، تستغرق مدتها ثلاثين ساعة!!!.. وقد ربط الكثير من المحللين بين هذا التهديد والتحركات المحمومة التي قام بها عدد من هؤلاء الحكام لمنع محاكمة الرئيس المخلوع وأسرته.. تحركات بلغت حد تهديد المجلس العسكري الأعلى في مصر بوقف كل الاستثمارات أو سحبها، وترحيل اليد العاملة المصرية من دول الخليج في حال تقديم مبارك للمحاكمة.. ومهما يكن مستوى مصداقية هذه الأنباء، فالشعوب العربية أدرى بحكامها وبأخلاقهم وسلوكاتهم!!! وإذا كان تهديد سوزان صحيحا وجادا، فنحن ندعو الله صادقين مخلصين ألا تتوقف المحاكمة وأن تستمر حتى نهايتها، لنرى إلى أي حد تستطيع سوزان الذهاب في تنفيذ تهديدها.. ولا شك أن جميع الشعوب العربية تتمنى ذلك، لا لأنها تريد التشفي، ولكن لتتمكن من رؤية الأمور على حقيقتها، ولتنكشف الكثير من الوجوه التي تدّعي التقوى في العلن، وتغرق في الرذائل في السر والخفاء.. ومما لاشك فيه أن مطلب إجراء محاكمة علنية للرئيس المخلوع، كان مطلبا وجيها، لأن الجميع، "من الشيخ حتى الرضيع"، بتعبير محمود درويش، يريد متابعة فصول هذه المحاكمة التاريخية، ولأن بثها المباشر عبر مختلف وسائل الإعلام سيضفي عليها شرعية أكبر وسينزِّه قضاتها عن الوقوع في أي شكل من أشكال المحاباة أو الرضوخ لأي ضغوط قد تمارس عليهم في الخفاء.. إن علنية المحاكمة شكل من أشكال الديمقراطية التي يريد الشعب المصري بناءها بعد انهيار نظام الحكم الديكتاتوري، وهي إحدى اللبنات الأساسية لهذه الديمقراطية.. ثم إن هذه العلنية هي أيضا رسالة موجهة لكل الحكام القائمين أو القادمين، ليكونوا على بينة من المصير الذي ينتظرهم لو زاغت بهم أقدامهم عن الجادة.. وختاما، لا بد أن نسجل ما عرفه البث المباشر لهذه المحاكمة من نسبة مشاهدة عالية في العالم العربي، تجاوزت بكثير ما كانت تحققه فوازير رمضان ومسلسلاته المصرية والسورية، وحتى المسلسلات المكسيكية والتركية المدبلجة.. نسبة مشاهدة يمكن اعتبارها تجليا من تجلياتِ تَشكل ِ وعي ٍعربي جديد، هو نتاج طبيعي لهذا الحراك الذي أثمره الربيع العربي..