بين الولاء للأنظمة ونصرة الشعوب لا شك أن حالة الثورة على الأنظمة ومشاهد القتل والإبادة المروعة التي تعرفها عدة دول من تلك المصنفة ضمن خريطة "العالم العربي" خلال الشهور الأخيرة، أي منذ حلول ربيع الشعوب بهذه البلدان، ستخلخل العديد من المقولات والبديهيات السياسية والثقافية التي تناولت الأوضاع القائمة ومشاريع الديمقراطية والنهضة، وأشكال التدافع والصراع التي عاشتها هذه المجتمعات خلال الفترة الحديثة من تاريخها الحافل بالأحلام والانتكاسات والأوهام. ومن المؤكد كذلك أن نتائج وتداعيات هذه الثورات ستدفع البعض إلى إعادة النظر في العديد من المقولات والأحداث والقضايا، وإلى استكناه العبر ومراجعة أكوام من المسلمات التي غذت مكر هذا التاريخ وكرست لبنية التسلط وبررت أشكال الاضطهاد والإرجاء التي خيمت على واقعها السياسي والثقافي مند عشرات السنين، أي منذ زمن استقلالاتها المعطوبة ووطنياتها وقومياتها الواهية. فعندما نتناول ما يحدث بهده البلدان انطلاقا من المغرب، أي من منظور التعاطي السياسي والثقافي مع قضايا الجوار الإقليمي والوطن العربي الوهمي الكبير، فلا شك أن أكثر من لحقه الحرج الشديد جراء ما يحدث في بعض هذه الأقطار خلال الشهور الأخيرة، خاصة بالقطر السوري، هم عرابو الصوت القومي عندنا والإطارات واللجن التي دأبت خلال السنوات الأخيرة على تنظيم الوقفات والمسيرات التضامنية دفاعا عن قضايا "الأمة العربية"، وخاصة بعض الوجوه التي حاولت أن تؤسس لمشروعية حضورها الخاص في المشهد السياسي والاحتجاجي عبر احتراف مناصرة قضايا اعتبرتها من صميم القضايا الوطنية والالتزام بأواصر الأخوة والإيمان بالمصير المشترك. وتزداد درجة الحرج الذي يواجه هؤلاء بعد أن سقط ألاف الضحايا في ليبيا وضاق الخناق على القذافي وازدياد حظوظ الثورة الحقيقية التي يقودها الشعب ضد نظام العقيد، ومع توالي مشاهد القتل البشع واجتياح "الجيش العربي السوري" - الذي قيل أنه أسس لإلقاء إسرائيل في البحر- للقرى والمدن والإمعان في إبادته أبناء الشعب السوري العزل لمجرد مطالبتهم بالحرية والديمقراطية، وبعد أن تهاوى النظام المصري وديكور الأوبرا أمام نداء الديمقراطية وانتفاضة الشعب وإصراره. أما محنة الشعب السوري فهي تشكل، على الأرجح، حالة من الصدمة في الوجدان والارتباط الرمزي والإيديولوجي بهذه الأنظمة الراعية لدى العديد من المثقفين والساسة من القوميين العرب المغاربة الذين طالما استفادوا من إتاوات هذا المشروع ومن دعمه وريعه المادي والسياسي. والسؤال الحرج الذي يتبادر إلى الأذهان أمام لا مبالاة – حتى لا نقول تواطؤ - بعض دعاة القومية العربية ونشطاء الحركة البعثية واختفائهم من المشهد خاصة منذ اندلاع ثورة الشعوب هو الأتي: هل أواصر الأخوة والنصرة والمصير المشترك التي طالما أكدوا عليها ورددوها في تبرير المغالاة في الارتباط والتبعية لبعض دول الشرق العربي، هي أواصر ارتباط بالشعوب المقهورة أم بالأنظمة المستبدة راعية الفن والثقافة ولجن المساندة وملحقاتها الإيديولوجية والسياسية؟ وهل يمكن أن تتحقق الثقافة ويزدهر الآداب والإبداع كانشغال عميق بقضايا الإنسان والمجتمع وارتباط أمين بأفاق تطوره وتحرره، وهل يمكن للحركات الوطنية والقومية و"التحررية" أن تحقق أحلامها ووعودها ومثلها، دون التزام وتحرر حقيقي من قبضة السلط واملاءات الحكام؟ فالثقافة التي تنتعش تحت رعاية الاستبداد مشروع واه واحتفاء عمره قصير، وحدها الديمقراطية والمدنية والحداثة ومنظومة الحقوق الكونية وسيادة الشعوب هي الكفيلة برعاية الفعل الثقافي والإبداعي الحقيقي وضمان تحققه كانهماك إنساني وصوت نقدي وحاجة وقيمة عليا. في هذا الصدد علينا أن نتذكر أنه قبل بضعة شهور لم يكن أبطال الممانعة ونشطاء لجن المساندة والدفاع والنصرة، خاصة بعض زعمائها المحترفين الذين حولوا هذا النشاط إلى أصل تجاري مذر للربح، لم يكونوا يختفون كثيرا عن المشهد الاحتجاجي والحقوقي والإعلامي المحلي ليمارسوا واجبهم القومي في تذكيرنا باستمرار بما يقع في المشرق العربي وبواجباتنا اتجاه الأشقاء... كما أن ندوات الآداب والفنون واستجداء الخبرات والنصائح، والزيارات السياحية ضلت نشيطة حتى صبيحة الثورات بين بعض الإطارات الممثلة للكتاب والمبدعين المغاربة وبين المجالس القومية والإطارات البعثية الراعية للثقافة والفنون. بل ثمة من الجمعيات الرافضة للتعدد اللغوي والثقافي الوطني من حضرت قبل شهور لقاءات تحت رعاية نظام الأسد وتوسلت دعمه لمواجهة مخاطر دسترة "اللهجات المغربية"، داعية عبر "نداء دمشق" إلى استنساخ قرار جمهوري سوري وتطبيقه في المغرب. ناهيك أن تسلم جوائز من تنظيم بعض هذه الأنظمة كان العامل الذي مهد طريق الاستوزار والمسؤوليات العمومية أمام بعض المثقفين القوميين عندنا. وسيبقى الأكثر إثارة للأسى أن نرى مثقفا قوميا من قدماء حركة اليسار الديمقراطي الشعبي... يطل دون خجل من قناة الجماهيرية العظمى في عز لحظات القمع والإبادة الوحشية للمدن والقرى والجبال الليبية ليقدم نصرته للعقيد ضد شعبه... وأن نعاين كيف انبرى شيخ جمعية الدفاع والمساندة محذرا من ثورة الشعب السوري وتوقه إلى الانعتاق والديمقراطية بدعوى المؤامرة الخارجية مباركا بذلك فتك نظام البعث ضد صوت الديمقراطية والحرية الذي لم تعد تخفته أو توهمه الأوشاح الخادعة! أما الذي نتمناه هو أن يتسم البعض عندنا بما يكفي من النزاهة الأخلاقية والشجاعة والتجرد الفكريين لتأمل الأحداث والهزات التي تتوالى أمامنا على امتداد خريطة تنضح أوهاما وأساطير وانتكاسات، حينئذ ستسقط لا محالة العديد من الأقنعة الخادعة ومحجبات الريع السياسي والثقافي، وستتضح مدى فظاعة الكثير من "أواصر الارتباط" ووصفات الابتزاز، وستتبين خطورة التبعية الإيديولوجية التي جاهد البعض لترسيخها ضدا على تاريخ هذا الوطن وواقعه ومستقبله. ولعله يتبين لحظتها أننا في حاجة إلى إعادة تقييم انتمائنا وصلاتنا ومصالحنا بدءا من الاعتزاز بالذات والاستفادة من التجارب الكونية وتوطيد أواصرنا بالأخر في دائرة التجارب الإنسانية والاحتكاك الديمقراطي والتنافس الثقافي والحوار الحضاري المؤسس لعبقرية الشعوب وكرامتها. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.