يعتبر قصر الأمم الشهير عصب الدبلوماسية المتعددة الأطراف، والمكان الذي تم خلاله نزع فتيل مجموعة من النزاعات بعد الحرب العالمية الثانية عندما كان العالم يعيش مرحلة إعادة تشكل كبرى. فبالإضافة إلى مكانته داخل منظومة الأممالمتحدة، يرمز قصر الأمم للدور الذي لا زالت تضطلع به الأممالمتحدة بصفتها الأداة الوحيدة القادرة على تأمين الأمن الجماعي حاليا، حيث تعيش الساحة الدولية أزمات متعددة ومعقدة في نفس الوقت، كالنزاع السوري، والأزمة بين الكوريتين والقضية الفلسطينية. ويوضح سفير سويسرا لدى الأممالمتحدةبجنيف ألكسندر فاسيل في مقال له أنه في جميع الحالات يبقى المكان الذي تجد فيه الدول نفسها في مكانها الاستراتيجي على الرغم من العقبات التي يمكن أن تظهر. صحيح أن قصر الأمم يحيلنا اليوم على صورة لنظام عالمي ثنائي القطبية تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه لم يفقد من دوره الأساسي للدفاع والحفاظ على السلم. ويعتبر مارسيلو كوهين الخبير في معهد الدراسات الدولية العليا بجنيف أنه " مع الأممالمتحدة والتي تعتبر جنيف مقرها الأوروبي، لدينا نظام للأمن الجماعي لا زال قادرا على الاضطلاع بدوره، وهو ما يؤكده اليوم ما يحدث في سوريا ". غير أن تحليل البعد السياسي لمعلمة بهذه القيمة لا يمكن أن يكتمل دون العودة لظروف نشأتها التي واكبت أجواء الحرب الباردة. فعلى حديقة (آريانا)، شيد قصر الأمم ما بين 1929 و1937، حيث كان في البداية مقرا لعصبة الأمم إلى غاية 1946، قبل أن يصبح مقرا لمنظمة الأممالمتحدة. وفي 1966، أصبح ثاني أكبر مقر للمنظمة بعد مقراته المركزية في نيويورك. ومن مفارقات التاريخ أن يصادف الانتهاء من بنائه فشل عصبة الأمم التي أصبحت قيد الزوال. ويعود الفضل في اتخاذ جنيف مقرا لقصر الأمم للرئيس الأمريكي السابق وودرو ويلسون حيث بذل كل ما في وسعه من أجل عدم إقامته ببروكسل. كما يعود الفضل لأول أمين العام لعصبة الأمم إيريك دروموند في أن يكون على الضفة اليمينية حيث أراد أن يكون مطلا على الجبل الأبيض، أعلى قمة في أوروبا. تلك هي الخلاصة التي توصل إليها، جان كلود بالاس في كتابه " هندسة قصر الأمم " إحدى الكتابات القليلة حول الموقع الأوروبي للأمم المتحدة. ولبناء المقر الجديد للمنظمة الأممية سنة 1926، تم تنظيم مباراة بين مختلف المشاريع الهندسية، غير أن لجنة التحكيم لم تتمكن من الحسم بين 377 مشروع مقدم، فتم تكليف المهندسين كارلو بروغي (إيطاليا، وجوليان فليغينهايمر (سويسرا)، وكاميل لوفيفر وهندري بول نينو (فرنسا) وكذا جوزيف فاغو (هنغاريا) بوضع مشروع مشترك. وقد تم وضع الحجر الأساس لعمارة بأسلوب كلاسيكي جديد في 7 شتنبر 1929. ويبقى قصر المؤتمرات قبلة لا محيد عنها للسياح. كما أصبح قاطرة للدبلوماسية المتعددة الأطراف في مجال نزع السلاح، والدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق العمال والتدخل العاجل عند وجود أخطار صحية. وإذا كانت مآسي الحربين العالميتين هي أصل هذا الإنجاز المعماري الكبير الذي يمثل المقر الأوروبي للأمم المتحدة، فإن الأزمات المتعددة التي تمزق المجتمع الدولي لا زالت حاضرة لتذكر العالم بأهمية هذه المنظمة. *و.م.ع