لا شك في أن الرأي العام ينتظر خطاب العرش المقبل بكثير من الترقب لما قد يحمله من تقييم لحالة البلاد، ولِما قد يُستجد على مستوى تدبير أمور الدولة في هذه الفترة التي يعمّها الالتباس على مستويات عدة. ولأن العادة قضت بأن يعرض خطاب العرش الحصيلة والآفاق، فإن هذه السنة قد لا تكون كسابقاتها. ذلك أن مسار الإصلاح بالمغرب بدأ يزيغ عن سكته و يحتاج، اليوم، إلى نفسٍ جديدٍ ، بل وتعريف مغاير يكون محمولاً على قرارات جريئة وذات طبيعة استراتيجية وممتدة في الزمن الإصلاحي والتحديثي الذي دشنه، نظريا، دستور البلاد. فلا يمكن لأية حركة إصلاحية أن تكسب قوتها في تحقيق التحولات الاجتماعية بدون إدراجها في استراتيجيات مضبوطة تعتمد على منطق التراكم البناء. هذه الأطروحة قد تنطبق على مجموعة المبادرات التي تؤثث طريقة تدبير السلطةبالمغرب. وهي، وإن كانت في بعض جوانبها ايجابية، لكنها تبدو فاقدة لذلك الخيط الناظم الذي يجعل منها أسلوبا ثابتا وخيارا استراتيجيا للدولة. بتعبير آخر، كيفما كانت الاعتبارات المتحكمة في أسلوب تدبير السلطة في هذه المرحلة، يبقى السؤال مشروعا حول مدى توفر الدولة على تصور منسجم ومحتضن لكافة المبادرات الإصلاحية التي تقع هنا وهناك. فمثلا، ما يقع من تأديبات وقرارات ردعية في حق كبار مسؤولي الدولة ومؤسساتها المختلفة، يفترض به أن يندرج ضمن الفهم الصحيح للمسؤولية العمومية، المبني على معادلة ربط المسؤولية بالمحاسبة كقاعدة دستورية تسمُو على ما سواها من قواعد معيارية، قانونية كانت أم إجرائية أم أخلاقية. الأكيد أنه ثمة هاجس مزدوج يتملك أية إرادة سياسية إصلاحية في زمن الانتقال:أولا، ضرورة ترويض العديد من رموز السلطة بالبلاد، خاصة منهم من لم يستطع بعد التأقلم مع متطلبات المرحلة الجديدة والمتغيرات المتسارعة في زمن مطبوع بقلق البحث عن أفضل النتائج للمخططات التنموية وللسياسات العمومية المتصلة بالعدالة الاجتماعية . وثاني الهواجس هو واجب الحفاظ على استمرارية الدولة بأقل الخسائر الممكنة في ظل تربص الحرس القديم المعشعش داخل الإدارة العمومية، بجميع المبادرات الإصلاحية. وبالتالي فأية حركة إصلاحية غير محسوبة ستكون عديمة الجدوى إذا لم توازيها عملية تفكيك لوبيات مقاومة الإصلاح. ولأن الرغبة في التجاوز تكون مبنية، بالضرورة، على منطق التراكم في المنجزات، المشروط هو الآخر بالتقييم الموضوعي للسياسات والاستراتيجيات، فإن واقع الحال يضعنا أمام سؤال الحصيلة للمفهوم الجديد للسلطة الذي طُرح قبل عدة سنوات في ظل العهد الجديد. ومع أنه تمت مراعاة أسسه المعيارية في دستور 2011، غير أنه يتضح وجود صعوبة استيعاب هذه المقاربة في العمق، وارتهانها للتقديرات المزاجية التي لا تضمن التغيير في جوهر الأشياء. لا شك في أن هناك تراجع ملموس في ثقافة التسلط والسلطوية ، ومَردُّ ذلك إلى عوامل كثيرة كتنامي ثقافة المواطنة والوعي العام لدى المغاربة، والدور الهام لوسائل الإعلام بمختلف وسائطها، فضلا عن التغيير الحاصل في الأولويات والاهتمامات لدى الدولة نفسها. لكن رهان التحول من سلطة مؤطرة بمقاربة أمنية إلى سلطة مؤطرة بمقاربة تنموية، سيكون رهانا معطوبا إذا لم تتوفر له وضوح الرؤية في إطار مشروعٍ متكاملٍ، محمولٍ على نموذجٍ مغربي أصيلٍ، على أن يستمد أسس مشروعيته من اتفاق جماعي مكتوب ومُمَأسس كآلية احترازية لضمان عدم العودة إلى الوراء. هكذا، وحتى يكون لجميع المبادرات الإصلاحية بُعدها التاريخي، لا مناص من حسن تدبير الزمن الإصلاحي تدبيرا تراكميا، لا يعدم إمكانية التأسيس لبعض القطائع كمقدمات تاريخية لثورة ثقافية في المجال السياسي العام، يقع ضمن عناصرها الأساسية تحرير الدستور من عقاله والنخبة السياسية من بؤسها، كشرطين أساسيين لتحرير طاقات وكفاءات الأفراد حتى يساهم الجميع، كل من موقعه، في التأسيس لقيمة المواطنة و لمفهوم الانتماء للوطن ولرابطة الولاء للدولة الحديثة. فمن حق المغاربة أن يطمئنوا لدولتهم، و لنظامهم السياسي، و لزمنهم الإصلاحي. إن استقرار البلاد مرتبط باستقرار وباستمرار الدولة، وهذا الربط الجدلي غير قابل لأية مزايدات تاريخية عقيمة . ثم إن استمرار الدولة نفسه مشروط بالبحث عن مشروعيات جديدة قادرة على احتضان المشروع الإصلاحي وتجاوز المشروعيات التقليدية التي لم تعد قادرة على مقاومة الرغبة في التغيير، كحتمية تاريخية تتجاوز النزعات الإرادوية.