ملاحظات منهجية وجوهرية على التقرير المسرب للمجلس الوطني لحقوق الإنسان يشكل "بروتوكول اسطنبول" الوثيقة المرجعية في مجال التقصي والتوثيق الفعّالين بشأن مزاعم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة من الكرامة، كما أنه يشكل دليلا استرشاديا لهيئات التحقيق والخبراء والأطباء المكلفين بالبحث في مزاعم التعذيب، أو المنتدبين لمعاينة أثاره الجسدية والنفسية على الضحايا المفترضين. ويحدد هذا الصك الدولي، الممارسات السليمة والفضلى، والقواعد النموذجية في إجراءات الاستماع والمخابرة والفحص على الأشخاص الذين يتظلمون أو يشتكون من تجاوزات تدخل في خانة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة المهينة أو الحاطة من الكرامة. وقد جاء هذا المرجع، استجابة لرغبة المجتمع الدولي في توحيد آليات رصد والتحقق من مزاعم التعذيب، وضمان فعاليتها وحيادها، وعند الاقتضاء ترتيب الجزاءات القانونية في حق الأشخاص الضالعين في قضايا التعذيب. ولئن كان الجميع قد تلقى بارتياح كبير، وتقدير بالغ مبادرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يشرف عليه إدريس اليزمي عندما دخل على خط التقصي في شأن مزاعم التعذيب التي أثارها بعض المعتقلين على خلفية أحداث الحسيمة، على اعتبار أن هذه المبادرة ستساهم من جهة في إرساء مرتكزات المحاكمة العادلة، كما أنها ستضمن من جهة أخرى عدم إفلات أي شخص من العقاب، إلا أن ظروف وملابسات تسريب وثائق مرتبطة بهذا الملف دون استكمالها وتوثيقها، وقبل عرضها على الجهة النهائية المختصة، جعل هذه المبادرة تفقد حجيتها ومصداقيتها، خصوصا بعدما تسربت مجموعة من الاخلالات المنهجية والعيوب الشكلية إلى الوثيقة المنسوبة لمجلس الأزمي والصبار. ويمكن استعراض أهم المؤاخذات المفاهيمية والمنهجية ذات الصِّلة بهذا الموضوع، في النقط التالية: أولا: تتعلق الملاحظة الأولى بطابع السرية المفروضة في تقارير هيئات التحقيق والخبراء الشرعيين في مجال مكافحة التعذيب. وفِي هذا الصدد يوصي بروتوكول اسطنبول في البند 84 منه على أن تكون هذه التقارير مطبوعة بالسرية المطلقة، وأن تحال على الجهة المكلفة بالتحقيق دون سواها، مع عدم إتاحة الفرصة للاطلاع عليها من قبل أي كان، وهو ما غفله معدو التقرير وتغافلت عنه الجهة التي أوصت به، بعدما تم تسريبه في ظروف غامضة. ثانيا: يحدد البروتوكول قائمة بإجراءات الفحص الواجب استيفاؤها حتى يتطبع التقرير بطابع المصداقية والفعالية، وحتى يستقيم من الناحية المنهجية ويتسق مع المعايير المحددة دوليا. ومن بين هذه الإجراءات نجد أولا جرد دقيق لظروف المقابلة والفحص من حيث الزمان والمكان، مع بيان الأشخاص الحاضرين، وتوخي الانفراد مع كل ضحية مفترض، ثم يأتي في مرحلة ثانية ما يسمى ب" الخلفية" والتي هي عبارة عن ملخص للرواية التي يقدمها هذا الأخير حول مزاعم تعذيبه، وفِي مرحلة ثالثة هناك الفحص الطبي الجسدي والنفسي والتشخيصات الضرورية المقرونة بالصور إن أمكن، وبعد ذلك مرحلة تكوين الرأي بشكل يسمح بتوضيح العلاقة المُحتملة بين نتائج الفحص ومزاعم التعذيب، وأخيرا هناك المرحلة الشكلية والإجرائية المتعلقة بتدوين هوية القائم بالفحص وتضمين توقيعه. والملاحظ بخصوص هذا التقرير المسرب، في حال صحته، أنه أغفل معطيات مهمة وانبرى يتحدث عن مدى احترام شكليات وضمانات قانونية لا تدخل في ولاية الطبيب المنتدب للفحص، من قبيل زعمه أن الشرطة لم تحترم حقوق الدفاع وشكليات إخبار العائلة والحق في التزام الصمت... وهي مسائل قانونية لا تكتسي طابعا فنيا أو طبيا، مما يجعل إثارتها من قبل طبيب شرعي انحرافا صارخا عن ولايته النوعية وعيبا في الاختصاص يؤثر بالضرورة على مصداقيته المحكومة بواجب التحفظ والحياد. ثالثا: تم تسجيل تباين واختلاف منهجي في تقرير واستنتاجات كلا الطبيبين، فالأول كان يتحدث عن مزاعم تعذيب بشكل مطلق ويطالب بإجراء بحث قضائي بشأنها من منطلق الإفادات والروايات الأحادية التي توصل بها، بينما كان الطبيب رئيس القسم دقيقا في ملاحظاته عندما اقترح عرض مختلف الاستنتاجات على عناصر القوة العمومية للجواب عليها وتوضيح ملابساتها قبل الجزم النهائي بوقوع التعذيب، الذي تعود مهمة النظر فيه الى الجهات القضائية صاحبة الاختصاص. وفِي انتظار استكمال نتائج التقصي في مزاعم التعذيب في حق معتقلي أحداث الحسيمة، سيبقى التقرير المسرب بداية غير موفقة في مسطرة معقدة تحتاج إلى التقرب أكثر من الرصانة والوضوح والحيادية، بقدر حاجتها الى الابتعاد عن التسرع والانطباعية والتسريبات، وذلك خدمة لقضايا حقوق الإنسان ببلادنا. *باحث مغربي