كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل السابع والعشرون سارتر يقول إن الجحيم هو الآخرون.. الفيسبوك يقول إن النعيم هو الآخرون.. حتى لو كان هؤلاء الآخرون مجرد كائنات افتراضية مجهولة قد لا تهتم إطلاقا إن سمعت خبر مرضك أو رحيلك. هي واحدة من أمتع اللحظات لدى "الزهرة"، عندما تنتهي من دراستها أو عملها، ثم تجالس تلك الكائنات الافتراضية في العالم الأزرق ليلا.. بروكسيل ليست المدينة الحلم.. والسماء فيها لا تمطر ذهبا ولا فضة. هذا ما اكتشفته الزهرة، ذات الثمانية عشرة ربيعا، بعد أن كانت قد سمعت ورأت الكثير من أصدقاء وأقارب لا يكفّون عن التأفف كلما عادوا إلى أرض الوطن، وهم يعقدون المقارنة تلو المقارنة بين بلجيكا "الرائعة" والمغرب "الرديء".. لكنها وجدت أن الحقيقة تختلف، وأنه في كلّ ٍ خيرٌ وشرّ.. للغربة مساوئها وللوطن زلاته.. حصلت على شهادة البكالوريا بعد جهد جهيد، وجاءت هاهنا تجاور صديقتها وابنة خالتها في دراسة مادة التاريخ.. أربعة أيام من الدراسة وثلاثة أيام من العمل كي تستطيع أن تؤمن تكاليف الدراسة ولقمة العيش. خالتها تبذل مجهودا كبيرا كي تشعرها أنها لم تغادر منزل أمّها بعد، لكنها لا تحتمل أن تكون عبئا على أحد.. خصوصا بعد أن رأت كيف أن كل شيء محسوب بدقّة هنا. المصاريف كثيرة جدا وما يفيض عن الحاجة تأتي الدولة لتتسلمه على شكل ضرائب وهي تفرك يديها مستمتعة.. تدخل غرفتها وتندس في الفراش الدافئ واضعة جهازها المحمول فوق حجرها. تعلّق أحيانا. تجامل. تفتعل ضحكة. تقبل جميع طلبات الإضافة، وعند أول تجاوز تمسح وتحجب. تنشر صورة لمدينة طنجة قديما. يعلق أحدهم تعليقا مستفزّا.. تتساءل: لماذا يكلّف نفسه من لا يحب شيئا التعليق على ما لا يحبّه؟! الأمر بالنسبة إليها أبسط من كل هذا التعب: أنت تكره شيئا ما.. إذن لا تهتمّ له. تتجه سبابتها إلى زر "إمسح" كما في كلّ مرة.. تتراجع سبابتها على بعد ملمتر واحد، يزيد أو ينقص. تقرر أن تردّ عليه علّها تؤدبّه، ولو أنها تعرف من خلال تجربتها الزرقاء أن لا أحد يتعظ.. هنا الجميع على حقّ والجميع رائع والجميع "سيندم الآخرون لأنهم تركوه".. يكتب أحدهم أو إحداهن " لا أندم لأنك تركتني بعد أن عثرت عليّ.. فهذا جعلني أكتشف أي "كنز" أنا!" ياسلام.. كم عدد الكنوز في الفيسبوك يا ترى؟!! هي كثيرة كزبد البحر بالتأكيد.. حالة غريبة جدا من الماشوسية الممتزجة بالنرجسية يطفح بها الفيسبوك تثيرها وتستفزها لكنها تتسلى رغم كل شيء.. هي حياة أخرى تعيشها بعيدا عن ضغط الأعصاب في واقع اغتراب لا يرحم. يرد عليها ذلك الشخص وقد خفت حدّة تعليقه. جميل، لقد أتى رد فعلها بنتيجة لأول مرة في تاريخ الفيسبوك على ما يبدو. تقول له كلاما محايدا.. لا تصدّه ولا تغريه بالمتابعة. يقول لها معلومة تسمعها لأول مرة عن طنجة.. يقولها لها على الخاصّ.. يبدو أنه عرف – من حيث لا يدري - من أين تؤكل كتفها.. هي المتيّمة بطنجة، العاشقة الولهانة بمدينةٍ تنتزع أرواح من يغادرونها، وتتركهم كأعجاز نخل خاوية.. قبل أن تردها إليهم حال عودتهم.. تجيبه، بتحفظ، طالبة ً الاستزادة. يسرد عليها عددا من القصص لم تكن تعلمها عن طنجة. تنبهر تماما. كلامه مسلّ ولغته ممتازة جدّا. يرسل لها عددا من الصور الرائعة عن طنجة.. صورٌ لم تشاهدها من قبل قط.. صورة لفريق طنجة ل"هوكي العجلات" في الخمسينات من القرن العشرين.. صورة لأول عامل بريد بالمدينة.. أفلام عالمية صوّرت بطنجة في الأربعينات.. لوحات ل"دي لا كروا".. فيديو عن المدينة صوّر سنة 1932.. لم تشعر إطلاقا بالوقت. كأنها تكتشف طنجتها لأول مرة. الآن تفهم لماذا تحبّ هذه المدينة.. الآن تفهم لماذا قال الطاهر بنجلون " قد نعرف لماذا لا نحب طنجة، لكننا – أبدا – لا نعرف لماذا نحبّها".. لا نعرف لماذا نحبّ طنجة – يا الطاهر – لأنها لم تبُح بكل أسرارها بعد ولن تفعل.. كم هو رائع هذا العشق الممتزج بالغموض.. عندما تشعر أن حبيبك سيبقى يقدم لك كل يوم جديدا حتى يواريك الثرى.. شعار طنجة هو " أجمل الأشياء هي التي لم تكتشفها بعد".. هكذا تمزج – هي – حبها لك وحبك لها بإثارة لا محدودة.. فقط تتمنى ألا يطلب هذا الغريب مقابلتها لأنها ملّت تماما من هذا النوع الخبيث المتذاكي الذي يبدأ كلامه وفوق رأسه دائرة ملائكية ثم بعد أن يشعر أنه أحكم قبضته الافتراضية على الحوار، ينزع لباس التقوى ويبرزُ قرناه من جانبيْ جبينه، وهو يحاول نصب الفخ لضحيته. هنا تأتي اللحظة التي تعترف لنفسها أنها تستمتع بها.. "إمسح" و "احجب" أيها الفيسبوك لا حرمنا الله منك. لكن الغريبَ – وهذا غريب – لم يفعل. أنهى الحوار بأدب وودّعها. تكرّرت حواراتهما. اكتشفت أي ولهان بطنجة هو الآخر. الحقيقة أنها لم تلتق في هذه الزّرقة شخصا موسوعيا مثله لحدّ الآن، على الأقل فيما يختص بطنجة. مرّ أسبوع كامل لتكتشف أن الفيسبوك أصبح هو الغريب، والغريب أصبح هو الفيسبوك. الاسم الذي يستعمله في الفيسبوك هو " طنجاوي مغترب". نبّهها هذا إلى أنها لم تسأله عن اسمه لحدّ الآن، رغم أنه على ما يبدو يضع صورته الحقيقية في حسابه.. سألته وهي تخشى أن يكشف ذلك عن لهفة ما.. - لم تخبرني لحد الآن ما اسمك الحقيقي..! - تعتبرين ذلك أمرا مهما.. - لا أدري.. لكنه يوحي بأن الشخص حقيقي وليس مجرد طيف.. - صدقت.. - إذن.. ؟ - إسمي هو... خالد... (يتبع) لقراءة الفصل السابق: "فلاش باك" لعملية سرقة زهرليزا! *روائي مغربي | [email protected]