(1)* إن المساواة هي التمتع بجميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والبيئية دون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو الرأي السياسي أو المستوى الاجتماعي أو الانتماءات الأخرى، وهي مدخل أساسي يهدف إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية، وغير ذلك من الأهداف السامية. ورغم ما حققته بلادنا من مكتسبات في مسألة المساواة، إلا أن التمييز السلبي مازال مهيمنا في التشريعات القانونية، ناهيك عن الأعراف والممارسات، مع هيمنة الثقافة الذكورية أو التقليدية المحافظة، مما تسبب في تراجعات خطيرة على مستوى الحقوق في السنوات الأخيرة. وتعتبر المساواة نقطة في بحر قيم عالمية سامية ومنظومة كونية اسمها حقوق الإنسان، التي نراها ثمرة تطور جدلي تاريخي ومسار حضاري دشنته ابتداء تلك التجارب الأولى للبشرية العاقلة من قرون عديدة، وليس انتهاء آخر النظريات والمساهمات الفكرية والجدلية، أو عمليات الانخراط الكلي للدول في الاتفاقيات المتمحورة حول تيمة حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا. قديما، ووفق ظروف عصره، أنزل حمورابي ترسانة قانونية حوالي 1750 قبل الميلاد، وفيها رسم أولى ملامح التنظيم والممارسة القضائية، والعدالة وقانون الأسرة، وحق الملكية، ما يضعنا أمام أول تصور لحقوق الانسان أبدعته البشرية في التاريخ. ثم، الملك كورش الكبير، أول ملوك فارس، الذي حكم بين سنتي 529 و550 قبل الميلاد، وكان أول من أرسى قواعد للحكم الذاتي للجهات البعيدة عن المركز، كما وضع مبادئ ممتازة للحكم في الامبراطورية، منها المساواة والتسامح ونبذ العبودية وإلغاء عقوبة الإعدام. ولا ننسى نظريات الحقوق الطبيعية من بنات أفكار فلاسفة الحضارة اليونانية الرومانية كأرسطو وسقراط وغيرهم، وهي مجموعة الحقوق التي يكتسبها الفرد بالطبيعة، أي إنها هبة طبيعية لكل فرد من الجنس البشري، لا تنزع من الشخص أبدا بل تلتصق بالإنسان أو بالجماعة أينما وجدت، وهي حقوق ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. كذلك، ساهمت النصوص الدينية، وعلى رأسها الأديان السماوية الثلاث، في الاعتراف بقدر مهم من الحقوق، وغلفتها بحمولة مقدسة جعلت أمر حمايتها وتحصينها في المتناول، كالحق في الحياة، والعدالة والإنصاف، وحق التملك والتصرف، واعتبار كل ذلك منحا إلهية مصانة لا تراجع عنها، غايتها تحقيق وصون المقاصد الكبرى لهذه الأديان والشرائع. ومع إرهاصات عصور النهضة، والمخاض الذي أدى إلى ولادة الدولة ضمن تطور تاريخي معروف، خرجت إلى الوجود تجارب ثورية عدة، بدء بالوثيقة العظمى MAGNA CARTA في بريطانيا سنة 1215 ميلادية، وبعدها "الهابياس كوربوس" في 1679، تلاه قانون الحقوق الإنجليزي الذي أطلق عليه اسم "بيل أوف رايتس" سنة 1689، ثم إعلان فرجينيا للحقوق سنة 1776 باعتباره أول سند تنص مواده على حقوق الفرد والحريات، والذي جاء في مادته الأولى: "إن البشر جميعاً متساوون وأحرار"، وفي الأخير إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا، الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية سنة 1789، متأثرا بفكر التنوير ونظريات العقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية. في القرن العشرين، تكرست هذه المبادئ وتبلورت مع التطور السياسي الكبير لأنظمة الحكم والأفكار والمؤسسات السياسية، بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو وثيقة حقوق دولية تبنتها الأممالمتحدة في العاشر من دجنبر سنة 1948 في قصر شايو بباريس. ويتحدث الإعلان عن رأي الأممالمتحدة في مجال حقوق الإنسان المحمية والمكفولة لجميع الناس. بالإضافة إلى وثيقتي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية سنة 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966. وتشكل الوثائق الثلاث معاً ما يسمى "لائحة الحقوق الدولية"، التي أخذت قوة هامة وموقعا كبيرا في القانون الدولي. إن هذه التجارب التاريخية الهامة، رغم ما لها من اعتبار، إلا أنها ظلت غير كاملة؛ إذ إن مظاهر اللامساواة ظلت متجذرة في الدول والمجتمعات، مرة بحجة الخصوصيات الدينية والثقافية، ومرة بضعف الموارد المالية الكفيلة بالتربية وتشجيع حقوق الإنسان، ومرة بغياب الإرادة السياسية المرتبطة أساسا بغياب الديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية، بالإضافة إلى ضعف وسائل الضغط والإكراه المتوفرة لدى الأممالمتحدة أو سياسة الكيل بمكيالين في أحيان أخرى، فكان التفكير في اتفاقيات جديدة وجيل جديد من الحقوق مرتبط بالفئات أو الأقليات أو النوع. وعليه، وسعيا إلى تحقيق المساواة، العادلة والكاملة والشاملة، خرجت إلى الوجود "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" أو "سيداو" اختصاراً، وهي معاهدة دولية تم اعتمادها في 18 دجنبر 1979 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوصف بأنها وثيقة حقوق دولية للنساء. وتجدر الإشارة إلى أنها لا تضم حقوقا جديدة تتمتع بها المرأة دون الرجل، كما يخطئ البعض، وإنما هي رزنامة مبادئ وإجراءات الغاية منها، تمكين المرأة من التمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها الرجل؛ إذ تسعى الاتفاقية بالأساس، مع البروتوكول الاختياري الملحق بها، إلى القضاء على التمييز وتحقيق المساواة. وتعرّف الاتفاقية مصطلح التمييز ضد المرأة بما يلي: "أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل". وتنص الاتفاقية على أن الدول المصادقة عليها مطالبة بتكريس مفهوم المساواة بين الجنسين في تشريعاتها المحلية، وإلغاء جميع الأحكام التمييزية في قوانينها، والقيام بسن أحكام جديدة للحماية من أشكال التمييز ضد المرأة. وكذلك عليها إنشاء محاكم ومؤسسات عامة لضمان حصول المرأة على حماية فعالة من التمييز، واتخاذ خطوات للقضاء على جميع أشكال التمييز الممارس ضد المرأة من قبل الأفراد، المنظمات والمؤسسات. وتتضمن مواد هذه الاتفاقية وبنودها عددا من الإجراءات نذكر من بينها منع التمييز ضد المرأة من خلال كفالة مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة في التشريع والحماية القانونية للحقوق، والامتناع عن ممارسة التمييز ضد المرأة، واتخاذ تدابير محددة لإقرار المساواة وحماية الأمومة، وضمان المشاركة في الحياة السياسية، والحق في منح الجنسية للابن والزوج، والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في التعليم والوظيفة، والحرية في العمل، وضمان الإجازات والعطل في حالة الحمل والوضع، وضمان الرعاية الصحية والمساواة أمام القانون وحرية الزواج وفسخه وغيرها من الحقوق التي تتزامن مع حقوق الرجل نفسها. وتعاني هذه الاتفاقية بالخصوص من مسألة حساسية هذه الدول والمجتمعات أمام بعض القراءات الدينية، التي تتنكر حد التطرف لمسألة المساواة في ما يتعلق بقضية الإرث مثلا، والتي تخلت عنها هذه الدول لصالح أحزابها وتياراتها ذات النزعة السياسوية الضيقة؛ إذ إن مسألة الإرث لوحدها يمكن أن تشكل مادة خصبة للمزايدات والمهاترات لشهور بل سنوات، فتكثر الاتهامات والاتهامات المضادة، ويغيب أي نقاش جدي وواع بمسألة المساواة، في ضوء وقائع المجتمع الحديث والأرقام الإحصائية التي تضع المرأة والرجل في سلم المسؤوليات على قدم المساواة، بينما تتنكر لها على مستوى الحقوق. ويغيب أيضا، استحضار هذا المتروك، فشعوب الفقر المدقع، والدرك الأسفل للهشاشة، بدورها لا تكف عن الإدلاء بدلوها في مسألة رفض أي نقاش أو تحاور قد يفضي إلى تسامح ما في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، حساسيات استغلتها الحركات الأصولية مبكرا، وباركتها بعبارات فضفاضة سميت قواعد فقهية تسقط بمجرد معالجتها في ضوء تجارب مجتمع المسلمين الأول، كقاعدة "لا اجتهاد مع النص"، العبارة التي قتلت كل شيء في الأديان. لا اجتهاد مع النص، واجتهدنا وحرمنا ومنعنا العبودية وتجارة الرقيق. لا اجتهاد مع النص، واجتهدنا وتم إقرار عقوبات بديلة عن قطع يد السارق أو جلد الظهور العارية لمجرمين وجب حماية المجتمع منهم، بسجنهم أو تغريمهم، جنائيا ومدنيا. لا اجتهاد مع النص، وتم إلغاء الرجم بالحجارة أو الرمي من علو شاهق، أو قطع اليدين والرجلين، مع أن النصوص واضحة في القرآن وفي الأحاديث، ولم يستنكر أحد، ولم يبلغ إلى مسامعنا أي أثر لمطالب شعبية أو لحركات أصولية أو أحزاب دينية بإرجاع هذه الرزنامة المتخلفة عن عصرنا إلى حيز الوجود في دولة القرن الواحد والعشرين. إننا بحاجة إلى الوعي بأهمية حقوق الإنسان لتسهيل الانخراط بها، والإقرار بأهمية مسألة المساواة، والقفز على مبرر الخصوصيات الواهي، بقراءة متأنية للواقع، واستحضار معيقات القفز إلى مجتمع الحق والقانون، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، باعتبارها الباب الوحيد المفضي إلى مستقبل أفضل للبشرية. *ملاحظة: في الجزء الثاني سوف نتطرق لمسألة المساواة في ضوء اتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى حقوق الأقليات.