نهاية الأسبوع الماضي تم منع حفل تقديم كتاب المترجم والصحافي محمد جليد بمدينة سطات، بدعوة من فرع جمعية الشعلة والمقهى الأدبي بالمدينة. ومن دواعي المنع أن الكتاب المترجم "مملكة الكراهية" يسيء إلى العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والعربية السعودية. والكتاب في العمق يدرس مؤسسة محمد بن عبد الوهاب ويتتبع الوهابية وتأثيرها في التشدد الديني والإرهاب. كتاب "مملكة الكراهية" هو أطروحة للكاتب الأمريكي دور غولد، يعالج تأثير المذهب الوهابي في انتشار الإرهاب عبر العالم. يعود الكاتب، في معالجة هذا الموضوع إلى نشأة هذا المذهب ويسلط الضوء على مؤسسه محمد بن الوهاب، وكذا العوامل التي ساعدت على انتشاره في شبه الجزيرة العربية. كما يقدم المحطات الأساسية في تاريخ هذا المذهب، دعاواه، وصراعاته، وحروبه، وامتداداته الدينية والإيديولوجية، الخ. ويصل في النهاية إلى آفة العصر (الإرهاب)، ومدى علاقة هذا المذهب بانتشار ظواهر التطرف والتشدد الدينيين عبر العالم. ويركز في فصوله الأخيرة على شخصيات عرفت بتوجهاتها الدينية المتطرفة، أمثال عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم، وكذا الجماعات الإرهابية، كالقاعدة وأنصار الإسلام وجبهة النصرة، الخ. على العموم، فالكتاب يربط الإرهاب بهذا المذهب، وينفي أن تكون للدين الإسلامي الحنيف أي صلة بأشكال التشدد التي يشهدها العالم اليوم. إن المنع والرقابة في زمن العولمة، إن كانا سيؤديان إلى شيء فسيؤديان حتما إلى عكس ما تبتغيه الثقافة والفكر النقديين. على افتراض أن الكاتب دور غولد لم يكن محايداً، وحاول تشويه الاسلام، فأفضل حل أمامنا هو رد الحجة بالحجة وكشف تهافت خطابه، ومن ثم تقوية المناعة الداخلية للمثقف العربي والمسلم عموماً. إن العلاقات الدبلوماسية، وعلى رغم من أهميتها القصوى، فأنا أعتقد أنها لا يجب أن تنفصل عن الحريات، وخاصة الفكر والتعبير والثقافة، ولا يمكن بناء مجتمعات قوية ودبلوماسية قوية إذا لم تنطلق أساسا من الثقافة والفكر. إن الفجوة المعرفية التي تفصلنا عن الغرب تجعلنا في موقف لا يحسد عليه، وهذا الموقف راجع إلى فجوة الترجمة من جهة، وفجوة التلقي والتداول من جهة ثانية، وأن الصورة التي ألصقت بالإسلام، وإن كانت لا تعكس صورة الاسلام المحمدي الحقيقية، لا يمكن تصحيحها إلا بترجمة الكتابات الغربية التي نجحت إلى حد ما في بلورة إطار استشراقي للإسلام الذي انقسم حسبهم إلى إسلام كرنفالي وإسلام دموي، وهو ما يجافي الحقيقة. إن الاسلام الوهابي هو وجه من الوجوه المتعددة للتدين، وإذا كان الباحثون العرب والغربيون يدرسون القرآن ذاته، فما المانع من دراسة الوهابية وترجمة هذه الدراسات وتداولها بالنقد والتحليل؟ وإذا كانت الوهابية، ومن ثم العربية السعودية، سوف تتأثر ايجابا بالنقد الايجابي في أفق العصرنة والحداثة والفكر والتقدم، أليس هذه أجمل وأروع دبلوماسية يمكن تقديمها لبلد عربي؟ ثم ما الجديد الذي أتى به الكتاب غير ما هو معروف عند العادي والبادي وعند عامة الناس من العالم؟ خاصة وأن العربية السعودية اقتنعت بضرورة مراجعة المنهج الوهابي في تدبير شؤون المؤمنين بالبلد، وهو ما يدل عليه السماح لعدد كبير من الكتب التي كان مثلها ممنوعا في السابق في معرض الرياض الدولي للكتاب، ومن بينها كتاب "العطاونة محمد، الإسلام الوهابي في مواجهة تحديات الحداثة"، الذي صدر بالإنجليزية، وتمت ترجمته إلى العربية في 2014. وفي سياق الاتفاق الأمريكي السعودي حول مسألة الإرهاب والمد الوهابي، أكد، حسب موقع الجسر، وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون أنه تم تأسيس مركز بالعربية السعودية، وأن "المركز له عدد من العناصر لمهاجمة التطرف حول العالم، وأحد العناصر هي أن ينشروا كتبا دراسية جديدة تدرس في مدارس مساجد حول العالم، هذه الكتب بديلة عن الكتب الدراسية الموجودة هناك، التي تبرر للفكر الوهابي المتطرف الذي يبرر العنف، وقد طالبناهم أيضا بسحب الكتب القديمة". وتابع تيلرسون: "هذا المركز سوف يغطي نطاقا واسعا جدا من وسائل الاتصال الاجتماعي إلى الإعلام، وكذلك كيفية تدريب الأئمة الشباب بمراكز التعليم الإسلامية، ونحن نعمل معهم اليوم على تأسيس هذا المركز الجديد، بما في ذلك المعايير التي سنحاسب عليها". وهذا يعني أن السعودية نفسها منخرطة في هذا البعد الفكري الجديد. فما الداعي إلى منع كتاب ستعمل العربية السعودية من هنا فصاعدا على طبع أمثاله وتقديمها للقراء محليا، وإقليمياً وعربيا، وهو ما سيطلع به المركز السالف الذكر؟ تأسيساً على ما سبق، وبالنظر إلى التقاليد الكبيرة التي راكمها المغرب في ما يخص حرية التفكير والتعبير، خاصة في العهد الجديد، فإن منع تقديم كتاب يجعلنا في وضع سيء، خاصة وأن الكتاب لا يرد عليه ولا يدحض إلا بالكتاب، ولا يفل الفكرة غير الفكرة، خاصة في زمن الأنترنيت الذي جعل مفهوم الدولة الوطنية نفسها مفهوما سائلا(Fluide) ، ومفهوم المنع مفهوما متجاوزاً بالنظر إلى ما يكتب وما ينشر بشكل فائق السرعة. إن الدبلوماسية التي تعتمد المنع الثقافي والرقابة الفكرة هي من دون شك دبلوماسية منفصلة عن دولة الحق والقانون. إن منع نشاط ثقافي وممارسة الرقابة الفكرية على كتاب باسم الدبلوماسية شيء محزن ومفجع. *باحث في علم الاجتماع وأنثروبولوجيا الثقافة