أولا: من الحركة الاحتجاجية إلى الحركة الاجتماعية شكلت مسيرة الرباط ليوم 11 يونيو 2017 مرحلة فارقة في حراك الريف، إذ إن هذه المسيرة الحاشدة، والتي ضمت أطيافا متعددة من المجتمع المغربي، -وليس كما يدعي البعض أنها مسيرة للعدل والإحسان-، قدمت الجواب السياسي عن أزمة الديمقراطية الشكلية المغربية، وبشكل يضاهيه بل ويفوقه، هو أن المسيرة –حسب رأيي المتواضع- هي رد فعل جماعي واع ومسؤول ضد التحكم والسلطوية، إذ إن قراءة سريعة لمجمل الشعارات التي رفعت، والتي صدح بها عشرات الآلاف من المشاركين (هناك بعض الجهات تريد أن تقفز على روح المسيرة بالتشكيك في عددها وحجمها، لكن الذي يهم ليس الأرقام بقدر ما يهم المضمون)، كانت قوية وجد معبرة عن رفض الفساد والمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية: "الشعب يريد إسقاط الفساد"، "باي باي زمان الطاعة هذا زمان الممانعة"، وغيرها من المفردات الدالة على وجود جيل جديد من الحقوق الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. إنها بكلمة وبلغة سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية "ذخيرة Répertoire" غنية ومكثفة وتتعالى عن المطالب الفئوية والضيقة وحتى الخبزية إلى مطالب كبرى وعامة وشاملة، يمكن وصفها في عنوان عريض بأن "الشعب المغربي يريد تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية"، إنه يقول للمتحكمين ولسدنة التحكم "إن المغرب ليس لكم وحدكم، إنه ملك للجميع، وإن الشعب لم يعد يحتمل رعونتكم وإمعانكم في تمريغ كرامة المواطنين والمواطنات"، (كفى من الاستهزاء بمطالب الشعب). ثانيا: في مطلب تسمية الحراك المغربي بحركة اجتماعية إن التأمل في حراك الريف منذ بدايته إلى مسيرة الرباط ينبئ عن تحول جوهري حصل في هذه الدينامية الحركية، إذ إن البدايات الأولى لهذا الحراك كانت عبارة عن "أشكال متنوعة من الاعتراض، تستخدم أدوات يبتكرها المحتجون للتعبير عن الرفض أو لمقاومة الضغوط الواقعة عليهم أو الالتفاف حولها. وهي أشكال منتشرة في كافة الفئات الاجتماعية، وخاصة الواقعة منها تحت الضغوط الاجتماعية والسياسية، وقد تتخذ أشكالا هادئة أو هبات غير منظمة" (الشوبكي،2011). بيد أن اتساع دائرة الاحتجاج في مجموعة من المدن المغربية، والتي ساندت الحراك الريفي، جعل المتتبعين والمهتمين يؤكدون أننا لم نعد أمام حركة احتجاجية معزولة في منطقة أو مجال محدود ومعزول، وليس أمام احتجاج ذي طابع طائفي أو إثني (كما يحلو للبعض أن يسوقه)، بل إننا بتنا أمام حركة اجتماعية بكل ما يحمله المفهوم من دلالات ومعاني. ولعل في الرجوع إلى التحديدات المفاهيمية في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية ما يساعدنا أكثر على الاقتراب من طبيعة هذا الحراك. فألآن تورين، كواحد من المنظرين الذين اشتغلوا حول هذا التخصص، يؤكد أن "الحركة الاجتماعية هي فعل جماعي يهدف إلى مراقبة وتحويل نسق الفعل التاريخي"، وهي أيضا "هي مجهود فاعل جماعي من أجل الاستحواذ على قيم وتوجهات ثقافية للمجتمع بالتعارض مع فعل خصم تربطهما علاقات السلطة". ماذا يمكننا أن نستنتج من هذه التعاريف؟ الانتقال من دائرة الاحتجاج اللحظي والظرفي والعفوي إلى حركة اجتماعية يقودها فاعلون اجتماعيون متعددو المشارب، لكنهم يهدفون إلى تغيير جوهري في البنيات السياسية القائمة، وذلك بالتعارض مع خصم سياسي سلطوي. لكن الأهم في التعريف هو أن هذه الحركة تحمل في طياتها بعدا تاريخانيا (على الرغم من صعوبة ترجمة مفهوم آلان تورين "l'historicité"). وإذا ما أردنا أن نبسط المفهوم حتى يتم استيعابه من طرف القراء، فإننا نشير إلى الآتي: "التاريخيانية إذن هي قدرة المجتمع على إنتاج نفسه بنفسه بإعطاء معنى لممارسته، أي بإنتاج توجهاته، وهذا ما يفسر لماذا المجتمع ليس ما هو كائن ولكن ما يفعله ليكون، وهي قدرة تتطلب منه بعدا عن ذاته". ونحن ندعي أن المجتمع المغربي اليوم يعمل على بلورة تصورات جديدة لمغرب الغد، تقطع مع مغرب اليوم والأمس. بيد أننا وجب أن ننبه إلى أنه لا يمكن استلهام مفهوم التاريخانية كما حدده "تروين" بكل محمولاته ودلالاته وخلفياته الفلسفية وإلصاقه بالسياق المغربي، لأن المفهوم يحيل على القطع مع كل الميتافيزيقيات كيفما كانت (métasociaux garants). والحاصل أن الخصوصية المغربية المثقلة بالإرث الديني والهوياتي لا تحتمل كل المعاني التي يضفيها تورين على المفهوم. من بين السمات التي أمكننا استخلاصها في تتبعنا المتواضع لحراك الريف، وما استتبعه من حراك في مجموعة من المناطق، وجود ثلاث عناصر من المقومات الأساسية التي تضفي على الحركة الاجتماعية طابعها الدينامي والمستمر، وهذه المقومات هي: الحملة/ ذخيرة الوقفة/ مؤهلات التحرك.. فماذا تعني هذه المقومات في السياق المغربي؟ أ-الحملة: "مجهود عام مستدام ومنظم يملي مطالب جماعية على سلطات مستهدفة" (تشارلز تيلي،2005). تشكلت عقب مقتل "محسن فكري" جهود منظمة ذات مطالب محددة، تتمثل في محاسبة المسؤولين عن تدبير الشأن المحلي، وكذا عن تفعيل المسطرة القانونية في اتجاه إدانة ناهبي الثروات السمكية خارج كل قانون أو تشريعات وطنية. ب- ذخيرة الحركة الاجتماعية: (s, m, répertoire) "عبارة عن توظيف لتوليفات ممكنة من بين أشكال العمل السياسي غير الممأسس"، وهو ما يمكن التقاطه من قدرة المحتجين على تشكيل مواكب واعتصامات ومسيرات ومظاهرات وحملات مناشدة وبيانات وخطابات... امتدت لأكثر من سبعة أشهر، بل إنها انتقلت إلى بقية مناطق المغرب. ج- مؤهلات التحرك: "تمثيل المشاركين لجملة من الصفات العامة الموحدة، هي: الجدارة، الوحدة، والزخم العددي، والالتزام تجاه أنفسهم أو تجاه قاعدتهم الشعبية"، (عروض الوقفة) (تشارلز،2005). وهذا ما يفهم من مسارات هذا الحراك، الذي تشكل من مجموعة من الأفراد والقادة (الزفزافي نموذجا)، الذين تحدوهم فكرة رفع الظلم والحيف الذي طال المنطقة لزيد من 60 سنة، ولكن بشكل خاص أن ما يميزهم هو التحامهم واتحادهم حول المطالب نفسها وعدم التراجع عنها. وعندما تحدث المنظر السوسيولوجي "تيلي" عن أن من بين مميزات الحركة الاجتماعية: الجدارة، فذلك يعني أن القضية في الحراك الريفي وغيره تستحق هكذا حراك، وهي قضية جادة وليس متخلية أو متوهة، إذ إن المعطيات السوسيواقتصادية تبين حجم التردي في هذه المنطقة وغيرها من مناطق المغرب. أما بخصوص الزخم العددي فهو حاضر في كل المسيرات التي عرفتها منطقة الريف أو التي ستعرفها بقية مناطق المغرب. وأخيرا الالتزام تجاه أنفسهم وتجاه قاعدتهم الشعبية، فقد عبر عنه متزعم الحراك "الزفزافي". لكن التساؤل الذي يطرح في هذا السياق: هل سنشهد قادة "زفزافيين" في بقية مناطق المغرب؟ وهل سيتحقق هذا الالتزام الأخلاقي بالمعنى الكنطي تجاه الحركة الاجتماعية في بقية المناطق المغربية؟ وعلى العموم، فإن الشروط الموضوعية التي تعتمل في الشرط المغربي اليوم تؤكد أننا في مفترق طرق، وأن الحاجة قائمة إلى رفع تحدي أزمة الديمقراطية المغشوشة التي كرسها النظام المغربي طيلة السنوات الأخيرة؛ لكن مع الانتباه إلى ضرورة قراءة الواقع قراءة نقدية وبحس تاريخي جد عال، إذ الخبرة التاريخية للحركات الاجتماعية اتسمت بثلاثة عناصر: - مطلب محدد ومنظم يتجه نحو السلطات القائمة. - مجموعة من الأفعال السياسية تشتمل على تكوين الروابط واللقاءات العامة والتصريحات الإعلامية والمسيرات في الشوارع. - وأخيرا التمثلات العامة المتعلقة بجدارة القضية، مثل وحدة الحركة، أعداد المنضمين لها ومستوى الالتزام بها. ولعل قراءة في الشعارات التي رفعت في مسيرة 11 يونيو 2017 بالرباط تؤكد هذا المعطى، إذ تم رفع شعار: "إطلاق كافة المعتقلين بدون شرط أو قيد"، و"إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكافة المناطق المتضررة، والتي تعيش هشاشة حقيقية"، هذا علاوة على الشعار الذي أطر المسيرة من أولها إلى آخرها، وكان عبارة عن أيقونات تغنت بها الجماهير الحاشدة التي حضرت المسيرة: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ثالثا: في الشروط الموضوعية لاستمرار الحراك الاجتماعية وتحدياته ربما لا نأتي بجديد إذا ما تحدثنا عن وجود أعطاب كبيرة في النموذج التنموي بالمغرب، والذي يعاني من عدة عوائق بنيوية، وعلى رأسها أنه لا ينتج ثورة كافية لمواجهة التحديات الاجتماعية، وعلى رأسها "بطالة الشباب- تحسين مستوى معيشة السكان- إنعاش الفئات المتوسطة"، ولعل آخرها ما ورد في تقرير البنك الدولي "المغرب في أفق 2040: الثروة اللامادية واتجاهات النمو الإقلاع الاقتصادي les voies de l'émergence économique ". هذا التقرير يصف الوضع الاقتصادي في 15 سنة الأخيرة بالمتردي، ما يحد من طموح المغرب نحو معانقة الدول السائرة في طريق النمو. ومن بين المؤشرات على ذلك ضرب القدرة الشرائية le pouvoir d'achat للمواطنين. أما المؤشر الثاني والفاضح فهو أن الدخل القومي الفردي لازال ضعيفا، إذ إن اليونان تتوفر على دخل قومي فردي يفوق ثلاث مرات المغربي، رغم أنها تعاني من أزمة اقتصادية خانقة. وأقل مرتين من البرازيل والمكسيك والأتراك ورومانيا. بمعنى آخر لازلنا في وضعية أوربا في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي. أما المؤشر الثالث فهو نسبة نمو هشة لا تستطيع أن تضاهي التنافسية عند الشيلي أو كوريا الجنوبية أو تايوان وإسبانيا والبرتغال؛ فحسب الخبراء فإن نسبة 4 بالمائة السنوية للنمو لمدة عقدين أو ثلاثة عقود كافية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي. لكن في المغرب لم تتجاوز نسبة النمو منذ 2000 إلى الآن نسبة 3 بالمائة، وهو عكس ما وقع في دول أخرى كتركيا وتايوان وماليزيا والشيلي. بخصوص المؤشرات السوسيواجتماعية فهي جد صادمة، إذ تتحدث التقارير عن استمرار وفيات الأطفال (24 وفاة في كل 1000 ولادة نسبة كانت في دول أوربا في 1960). أما نسبة التوفر على سيارة ف18 بالمائة من المغاربة يتوفرون على سيارة (الأسر)، في مقابل 30 عند الفرنسيين سنة 1960. هذا ناهيك عن فوارق في السعادة والعيش الكريم للمغاربة (91 على 157). بمعنى أن المغاربة يعيشون التعاسة بسبب قلة الإمكانيات، رغم أنهم يرددون "الحمد لله".. لكن حقيقة الأمر شيء آخر، والواقع لا يرتفع كما يقول الماركسيون. في حين أن المعطيات السوسيوتربوية هي الأخرى تصيب بالقرف، نظرا لاستدامتها وتراجعها سنة بعد أخرى. يكفي أن نشير إلى أن بالمغرب لازال بأكثر من 10 ملايين أمي ممن لا يعرفون لا القراءة ولا الكتابة. كما يوجد أكثر من مليون شاب بالمغرب لا يعمل ولا يقرأ وليس لديه مؤهل مهني للاندماج في سوق الشغل.. أما المعطيات الخاصة بنسبة التمدرس في الإعدادي فهي لا تتجاوز 58 بالمائة، والثانوي 32 بالمائة وإنهاء السلك التأهيلي لا يتجاوز 3 بالمائة. والمغرب بهذه الأرقام يسجل أدنى معدل للتكوين بنسبة 4.4 سنة. بيد أن أخطر ما في المعطيات والمؤشرات التي كشف عنها التقرير الأخير للبنك الدولي (2016)، فهي المتعلقة بنسبة الطبقات المتوسطة، فرغم الإقرار بالصعوبة المنهجية لتحديد هذه الطبقة من الناحية الإحصائية، (وهذا موضوع لا أحب الدخول فيه)، فإن المؤكد أن هناك تراجعا لهذه الفئة التي تشكل العمود الفقري للمجتمعات، فهي حسب التقرير لا تتعدى 25 بالمائة (حسب مؤشر الدخل).. فالمواطن المغربي الذي يقال "زورا" إنه ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، عندما يدخل في مغامرة شراء شقة (ليس من السكن الاقتصادي) وسيارة من النوع الجديد وتعليم الأطفال في مؤسسات حرة، وجب أن يتوفر على 10000 درهم، وهو ما يعني أن الفئة المتوسطة تنكمش إلى 15 بالمائة بالمغرب (المقارنات جد صارخة بين بولونيا (70 بالمائة) وماليزيا 65 وتركيا 52). ولتقديم صورة بالأرقام عن هذا الوضع، فإن 5 ملايين مغربي هم من الفئة المتوسطة الهشة، والبقية هي في الفئات الفقيرة والأقلية في الفئات الغنية. وهذا ما يجرنا إلى السؤال المحرق والحارق: أين تكمن ثروة المغرب؟ من يستحوذ عليها؟ من هم المحظوظون في هذا البلد؟ وهل يمكن الاستمرار في اجترار الأوضاع نفسها، بل إعادة إنتاجها –تحت مبررات واهية- سواء من طرف الحكومات المتعاقبة على المغرب، أو من طرف الماسكين بناصية الأمر والنهي في المملكة الشريفة؟ كيف يمكن أن نفهم استمرار التوريث الجيلي للفقر والفقراء؟ لماذا لم تتغير الأمور؟ ما دور الحكومات في هذا السياق؟ ما فائدة الانتخابات إذا كانت ستعيد المسلكيات نفسها والأشخاص أنفسهم والوضعيات والتراتبيات نفسها؟ نخلص مما سبق عرضه إلى أن المغرب لازال يسير وفق وتائر متعددة، ولم يصل بعد إلى مستوى تأمين العيش الكريم لكل المواطنين، بل إن السياسات المتبعة منذ الاستقلال إلى الآن لم تزد عن إحداث تمايزات طبقية حادة بين فئة تملك كل الراسميل: الثروة والسلطة والمعرفة والقيم، وفئة لا تملك إلا النزر القليل، وفئة لا تملك شيئا من هذه الخيرات. وهو ما يجعلنا نتحدث عن وجود شروط موضوعية لاستمرار الحراك الاجتماعي، بهدف الوصول إلى مرحلة بناء المواطنة الحقة وليس مواطنة القوانين الجامدة التي لا تغير شيئا. ولا يمكن في نظرنا المتواضع إحداث خلخلة في هذا النسق التحكمي إلا عبر ارتفاع منسوب الوعي الجمعي، والالتفاف بشكل موحد حول مطلب: العدالة الاجتماعية.