ما من مغربي أو حتى محب له، إلا ويده اليوم على قلبه. خشية أن يجر ثنائي التظاهر – وعقم الحلول، إلى كارثة، الخاسر فيها الجميع. بالمعنى الحرفي لكلمة "الجميع". ذلك أن المشهد خرج من دائرته الطبيعية، نحو الاستفزاز المتبادل والمناكفة السياسية. حرق الجوازات. التخوين. القمع. هتك الحرمات. العنصرية. النيل من الكرامة. المزايدات. المساس بهيبة الدولة. واحدة من هذه كافية لإشعال نار، لا أحد يستطيع ضمان مآلاتها يومئذ. مثلما سُطر في مقالات عدة، كنا ظننا أن ما يسمى "الربيع العربي" الذي عمت دماءه وخرابه ديار المسلمين والعرب، يكفي عبرة لحكومات وشعوب، كانوا على شفا حفرته فأنقذهم الله منه، لكن ما أغنت الآيات والنذر، حين غاب العقل، وساد الشح والفساد والطمع. إن تجمعات المناكفة السياسية منذ المرحلة الأولى في تاريخ الدولة الاسلامية، لم تجلب للأمة غير الكوارث، وفيها قتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وعلى اثرها قامت الفتنة الكبرى بين المسلمين، وقتَل الصحابةُ الذين تنزل عليهم الوحي بعضهم. وكانوا إذ ذاك أتوا موقعة "الجمل"، يريدون الاصلاح والتوسط، ويرفعون شعارات الانصاف والعدل والمحاسبة، لا أكثر. إلا أن المغرضين وأصحاب الأهواء المتسللين بينهم (فهم بشر) أطلقوا الشرارة، فحرقت الجميع. واكتوى بنارها المسلمون حتى اليوم. المغزى أن حسن قصد المتظاهرين، ووجاهة مطالبهم، ليست أماناً من تسلل ذوي المآرب، والفتنة وحرق البلد. وساعتئذ لن يغنوا عن أنفسهم ولا عن أوطانهم شيئاً. يومها يزيد العاطل عطالة، والفاسد فساداً، والسياسي بطشاً. ويزداد القانون ميلا وعتوا. هذه ليست أوروبا دولة المؤسسات، العاصمة من المأزق. وقل مثل ذلك في حق السياسي. الحزبي الذي يخشى على موقفه في الأزمة أن يؤثر على مقعده وحظه من السلطة. أو أن يخسر به الجمهور أو صانع القرار، ف "عين على الشحمة وأخرى على اللحمة" كما يقال. مكتفياً بالقاء اللوم والتبعة على أعوان السلطة (المخازنية)، وما هم في حقيقة أمرهم مهما تكن الأساطير الشعبية نحوهم، إلا مؤتمرون بأمر السياسي. فما من جندي يمكنه إطلاق رصاصة أو قمع إلا بتفويض صريح لا يقبل التأويل، من السياسي الذي يتلقى منه الأوامر. وهذا تحصيل حاصل. إذاً، ما ذا يخشى السياسي؟ وما ينتظر، ليجد حلاً للمعضلة التي تكاد تحرق البلاد جميعها. الكل يعرف أن مطالب الريف = مطالب كل المغاربة، ومعاناتهم هي معاناة جميع المغاربة وإن بنسب متفاوتة (خصوصاً الاطراف). الخشية والذريعة أنه ما إن تستجاب طلبات فريق أو مدن حتى تشرئب أعناق مدن أخرى، لتطالب بحقها في المعاملة بالمثل. لكن جوهر المشكلة ليس هذا. المعضلة في "تصفية الحسابات" بين الفرقاء وأصحاب المآرب، وأزمة الصدقية من لدن الحكومة (أقول الحكومة، لا الدولة). ماذا لو انبرى سياسي ذو مصداقية مفوض من صانع القرار، يصارح الناس بالأخطاء، ويتعهد بإصلاحها بدءاً بلحظة القاء خطابه. ويجاهر بالحقيقة المسكوت عنها في اللحظة نفسها، وهي أن المغرب دولة تعاني فساداً متجذراً وخصاصاً في الموارد، ومنذ عقود هي في ما يشبه "حالة حرب"، وأنها حتى وإن آمنت بالاكراهات التي يعاني منها الشعب، والمعضلات الاجتماعية، فإن تحويل ذلك الواقع إلى النقيض الايجابي في أشهر أو بضع سنين، ضرب من الوعود الكاذبة، والمحال. على ذاك السياسي أن يبرهن عن صدقية الدولة في أنها ستساوي بين الريفي والبيضاوي والمراكشي والرباطي والجبلي والوجدي والصحراوي، وأن يحكم بينهم بالعدل أو "بظلمهم جميعاً"، نعم، فالعدل في الظلم، خير من العدالة المائلة، فلو أن "فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ما يعني أن تنزيل القانون والمساطر على شريحة أو منطقة دون أخرى، مفاسده أحياناً أكبر، من الترك الكلي. وفي هذه المسألة لا يجوز اعمال القاعدة الأصولية "ما لا يدرك كله لا يترك جله". فأن تطعم الفاسي خير من الريفي مثلاً أفضل منه في عالم اليوم أن تجوّعهما معاً! حين يثبت السياسي صدقيته ويبرهن عن ذلك بأفعال على الأرض، ليست صعبة في الريف ولا غيره، سيكون المغاربة معه يد واحدة، في "سحق" أي خارق للاجماع، أو طامع، أو مثير للضغينة والافساد، أو حامل رايات الجاهلية والجوار، ناهيك عن حارقي رموز الوطن أو منكسيها. حينها الشعب نفسه يكون جنداً في ذلك السحق والسحل. ويومئذ يعيش من شاء على بينة ويصلى سعير السلطة وشعبها من شاء على بينة أيضاً. لكن من يكون ذلك السياسي؟ حتى من يعيشون في الخارج، ناهيك عن الداخل، يعرفون أن المغرب بلد مليء بالنزهاء والشرفاء من النساء والرجال، والقامات الرفيعة من ذوي الرأي السديد. لكن أين هم؟ لا يعرف موقعهم أكثر من صانع القرار. لكنهم قطعاً ليسوا في الأحزاب السياسية. ولا في مؤسسات المجتمع المدني، التي باعت الوهم للسكان، فكانت عاقبة أمرها خسراً. لم يبق للمغاربة، بصيص من أمل، غير المؤسسة الملكية، المتمثلة في شخص الملك ومن يسير في فلكه. وما سوى ذلك، فإن لسان الشعب يقول: "هم العدو فاحذرهم". وتلك لعمري الكارثة التي أوصلت للحالة الراهنة. فليس في الساحة أحزاب أو مؤسسات رشيدة يمكن أن يطمئن الناس إلى أنها ضامنة للاستقرار، وحامية له من الوقوع في شرك الفتنة، مهما طالت المظاهرات، وتعددت أهواء ومآرب منظميها والناشطين فيها. فيخشون أن يناموا آمنين مطمئنين ويستيقظوا بتعبير الملك نفسه على "قيامة" حقيقية. لا تبقي لهم من وطنهم ومصدر أمانهم، أخضراً من العيش ولا يابساً من الاستقرار. خلاصة القول، مالم تسُدِ الحكامة والصدقية والعدالة وفصل السلطات، وعمل المؤسسات، سنشهد "حراك الريف" ثانيا وثالثاً وعاشراً، بأشكال وألوان مختلفة، فالعصر تغير والمعادلة كذلك. وإنقاذ الوطن ومقدراته ومستقبله ليس رهن بأولئك الشبان، العقلاء منهم والأغرار، وإنما بيد الدولة نفسها، أن تسد الثغرات، وتأخذ بيد حكومتها وأحزابها ومؤسساتها وأيدي الجميع. ذلك هو معنى "الدولة". *** لفتة نبوية في هذا الشهر الكريم: قال صلى الله عليه وسلم: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم اسفلها، فكان الذين في اسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنها خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً". رواه البخاري. *كاتب صحافي [email protected]