"خذو المناصب والمكاسب بربي خلولي الوطن" (لطفي بوشناق) "الحرية درب طويل وشاق'' (الكاتبة الأوكرانية سفيتلانا أليكيفيتش ) جاءت بعض مقاطع خطاب الملك الحسن الثاني كالتالي: "… السكين وصل لعظم، شافوها في وجهي، سمعوها من كلامي، واتشبعوا بها من الرنة ديال صوتي، واش المغاربة رجعوا خفاف، رجعتوا دراري، وصلنا لهذا الحد. وصلنا لاش، باش، بواسطة إما الأطفال أو الأوباش، الأوباش: الناظور، الحسيمة، تطوان، القصر الكبير، الأوباش العاطلين اللي عايشين بالتهريب والسرقة واستعملوا في مراكش كما هو الشأن عند جميع المشاغبين، استعملوا الدراري الصغار هم الأولين…، دوك الأوباش راه مشاو إلى الحبس…)). كان الوقت ليلا، وحينا وقتئذ سيدي يوسف بن علي، المتهم الأول في نهاية خطاب الملك، والذي قطنته تسع سنوات بين 1980 و1989، يعيش قبل هذا يوميا أجواء احتقان غير عادية بين أجهزة الشرطة والسكان، الدكاكين مقفلة تماما، لم تعد الحياة عادية، بل الجميع يعيش حالة طوارئ. لم أستوعب حقيقة ما يجري حولي، كنت آنذاك في حدود سن الثانية عشرة تقريبا، مع أن وعيي تقدم دائما عمري. بعد انتهاء الخطاب، شرعت خشخشة ضوضاء تربو خارجا. تتمدد حركة غير عادية، ربما لم يمهل الصبر الناس غاية صبيحة اليوم الموالي، من أجل تبادل الفهم، واستيضاح ما أشكل على الفهم؛ لأن الرسالة لم تكن هينة ولا عادية، لا سيما أن اسم الحي تمت الإشارة إليه رسميا وتخصيصا، باعتباره مصدرا للشغب، بالتالي يلزم قاطنته تحمل عواقب وتبعات صنيعهم ! حاولت قدر الإمكان أن أسترق السمع تلصصا، خلف الباب الموصد، حتى لا أزعج بحركات غير محسوبة الوالدة والإخوة الغارقين في سباتهم. صمدت قليلا، عدت إلى فراشي. نمت على تداعيات ما سمعت. بالكاد، فتحت الباب صباحا، قاصدا الذهاب إلى المدرسة، حتى فوجئت بجندي، منتصبا أمام منزلنا، على أهبة الاستعداد. شعرت بالرعب، لأول مرة أجدني في معركة حقيقية. رماني بنظرات مريبة ذات سهام حادة. تجمد الدم في شراييني، وأصابني الوقع بشلل تام عن الحركة. تبادلنا معا جل كلام العالم، صمتا. لم يتزحزح شبرا عن موضعه، كي يفسح لي مجالا للخروج. ومما زاد المشكلة استعصاء، أني بصحبة محفظة ودراجة عادية، من الصنف الكلاسيكي القديم، التي يشغل هيكلها حيزا مكانيا مهما. وضعية هندسية مفارقة. تمسك العسكري بعدم اكتراثه نحو مصيري، ملامحه دائما باردة جدا، والبندقية متدلية من كتفه بكيفية رياضية. أذكر التفاصيل، كما الآن. فطنت، لا مخرج سوى التخلي عن الدراجة، والذهاب إلى المدرسة مشيا، وإن كانت المسافة بعيدة. أستحضر بهذه المناسبة، شعاران لأمي، يلزم تفعيلهما على أرض الواقع، غير قابلين للتنازل من طرفها: يجب أن أختار دائما جدول الحصص الذي يبدأ مع الساعة السابعة صباحا، عوض العاشرة، كي أعتاد على الاستيقاظ باكرا. المسألة الثانية هي أن أرضخ لقرار الاستمرار في أي مدرسة، ولو كانت نائية بما يكفي عن المنزل، مادامت ترفض مبدئيا مرافقتي بهدف طرق باب الجهة المانحة لترخيص التسجيل في مدرسة الحي. الغريب، ولسوء حظي أو حسنه، لا أعرف حقيقة، لم يكن القدر منحازا إلى جانبي، هكذا شكلت الدراجة الهوائية ملاذي الوحيد. أغلقت الباب بتؤدة، جذبت جسدي طولا، محاولا تقليص كتلته، تجنبا لكل احتكاك مع الجندي، فأي حركة ستكون بلا شك عواقبها وخيمة. تسللت أفقيا، أو..و..و..ف !! انتشلت نفسي من المأزق. برد قارس، فالفصل شتاء. شددت بإحكام أزرار معطفي الرث، استدرارا للدفء. بدأت أتحسس مدى الأميال التي سأقطعها، وحتما تفويت موعد حصة أو حصتين، ومهما جاءت صيغ التبرير، فلن يكون بتاتا مقنعا للمسؤول التربوي، المعروف بصرامته الشديدة، لا سيما إذا تزامن طلبك صدفة مع هزيمة لنادي الكوكب المراكشي. تيقن علم اليقين أنك لن تلج الفصل الدراسي ولو أتيت بهتلر شخصيا، مدعيا أنه ولي أمرك. في المقابل، متى تحقق الانتصار لفريق المدينة، فحتما سؤال أو سؤالين خفيفين امتثالا للأعراف الإدارية الشكلية، ثم يخلي سبيلك. يا للهول! ساحة المصلى التي تركتها فقط قبل يوم على حالها، بقعة جرداء، انقلبت على حين غرة إلى ثكنة عسكرية متنقلة، تشغل امتداد البصر، كأننا عند الخطوط الأولى للجبهة. الخيام منتصبة في كل مكان، شاحنات عسكرية ومختلف أنواع سيارات جيب، ثم عدد هائل من الجنود. ازداد فزعي، وتأكدت حقا أن لقائي السابق بذاك الجندي لم يكن صدفة؛ بل ما يعتمل أفظع بكثير. ثم بدأت أستحضر ثانية الكلمات المفصلية للخطاب الذي استمعت إليه. طبعا وصلت المدرسة متأخرا، حدست سلفا حيثيات صعوبة الخطوة الأولى، وضرورة تقديم جواب مقنع لصاحبنا عن أسباب الغياب. أيضا، لا أعلم آخر نتيجة حققها فريق الكرة، فلم أكن مهتما، كي أقيس الأشياء وفق مقاسها المناسب. طرقت الباب بضربتين خفيفتين، أقرب إلى اللمس، سمعت الإذن، ثم فتحت: بدا وجهه عبوسا قمطريرا، أدركت أن الصفقة خاسرة من البداية، وليس المطلوب سوى الرجوع من حيث أتيت، فأتدبر بأي وسيلة وكيلا عني، أما أمي فلن تصحبني مهما حدث؛ لكنه، صاح في وجهي: -"هيا أسرع إلى الحصة، ولا تكرر الأمر مرة أخرى". لم أفهم شيئا، ربما أحاط بتفاصيل ما بدأ يجري في حينا. بقيت، على امتداد الطريقة، أشحذ ذاكرتي كي لا تتلاشى كلمة "الماركسيين" التي أوردها أمس الملك في حديثه. أود الاستفسار عن معناها، لدى أحد مدرسينا. ما أشد شوقي وحنيني إلى أساتذة تلك الحقبة: رصانة معرفية، عشق للمهنة، حس وطني ثوري، التزام أخلاقي وتربوي. على أية حال، هو زمان ولى، بكل ماله وماعليه، برجالاته وأفكاره وطموحاته وتطلعاته. قصدت أستاذ مادة الاجتماعيات أو "كيفين كيغان"، كما لقبناه؛ لأنه صورة طبق الأصل عن اللاعب الإنجليزي الشهير. غلبت على نطقه اللغة العربية النبرة الأمازيغية السوسية، إضافة إلى انسيابه بعيدا عن جمود الدرس، نحو نقاشات سياسية تقدمية تجاوزت غالبا قدراتنا الصغيرة على المتابعة. أتذكر ذات صبيحة، وقد بدا الغضب مسيطرا عليه، سيخرج من محفظته دون سابق إنذار، مجلة الزحف الأخضر التي تصدر في ليبيا، مؤكدا بجرأة علنية أمامنا، كأنه في تجمع خطابي جماهيري، أن "القذافي هو الزعيم الأول في العالم الثالث، أبى من أبى وكره من كره!!" و"الاشتراكية تعتبر حلا نهائيا لكل مظاهر الاستغلال، والماركسيون يظلون أولاد الشعب الرجال !!". حينما سألته، كشفت شفتاه عن ابتسامة عميقة، ثم اقترب مني قائلا: "الماركسيون يا بني هم أناس مثلي ومثلك، لكنهم لا يعيشون لأنفسهم؛ بل من أجلي وأجلك والآخرين، كي تجد طعاما، وكرسيا في حجرة دراسية، ودواء، لكن الأهم أن يتسع لك وطنك ويضمك بحنان مثل حضن الوالدة". نفذ الحكم وعده، بدون رحمة، ملاحقا جميع "الأوباش" الذين يزعجون، وأصدر في حقهم أحكاما تجاوزت كل حدود التأديب الديمقراطي، قتلا وسجنا وتهجيرا ونفيا. أما "غير الأوباش" الذين آثروا حكمة الصمت مثلما يقال، فقد ظلوا قابعين في سجنهم الكبير يعانون كذلك في صمت لكنه مؤرق وفاضح. نتذكر أن انتفاضة 1984 جاءت بعد تبين ''الأوباش" النتائج السلبية لسياسة التقويم الهيكلي، التي أفتى بها صندوق النقد الدولي أجهزة النظام، وانعكست نتائجها المدمرة على القطاعات الاجتماعية للبلد، في طليعتها التعليم. لذلك، فالتلاميذ من بادر وقتها إلى التظاهر، ثم امتدت التحركات نحو باقي القطاعات والشرائح، بتأطير من حركة السرفاتي الماركسية- اللينينية. هكذا تمر ثلاث وثلاثون سنة، وقد هرمت جلودنا وتيبست حواسنا؛ لكننا نراوح مكاننا مع ذات المطالب ''الأوباشية''، حقا هي كذلك، وإلا فما معنى ونحن في القرن الحادي والعشرين ما زلنا بعد عند سقف حقوق طبيعية جدا وعتيقة كفاية: خبز، عيش، حرية، كرامة. مع ذلك، تقوم القيامة ولا تقعد. كأن التاريخ في هذا البلد، يأكل ذيله. وكأن قدرنا أن لا نكون حيث ينبغي حقا أن نكون، ومن حقنا باسم كل الشرائع السماوية والأرضية أن نعيش تحت الشمس. ما زال طريق الديمقراطية طويلا...