أضحت المواقع الاجتماعية مجالا عاما عوض المنابر الإعلامية الرسمية والمؤسسات المدنية والحزبية بالنسبة للعديد من المجتمعات العربية التي تشلّحت من قشور ديمقراطية الزيف بعد امتحان عولمة الاقتصاد وانتشار وسائل التواصل وظهور الصورة بوصفها مصدرا موثوقا للخبر، ما يشكل خطرا كبيرا على هذه الأنظمة الشمولية التي أبانت العديد من نخبها السياسية والمثقفة معا عن إفلاس قيمي منفصل عن هموم المجتمع، فتجردت المؤسسات التمثيلية من مصداقيتها الشعبية، وأصابت الجماهير الكادحة بإحباط، حيث ثبطت الطموح، وتسلل اليأس إلى فئات الشباب المعطل الذي فجر غضبه وحقده على المواقع الاجتماعية قبل أن يتكتل كقوة ضاغطة وينزل إلى الشوارع للتجمهر والتنديد والمطالبة بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، أي بحقه في العمل والتطبيب والعيش الحر الكريم، كلها مطالب كرامة، إذ نحن في العالم الثالث لازلنا نطالب بحقوق الكرامة قبل أن نطالب بحقوق المساواة وتكافؤ الفرص. في المغرب مثلا، وليس في الريف فقط، بل هناك مناطق أكثر نأيا، يلتحف سكانها العراء، وهم في حاجة إلى سكن لائق وصرف صحي وتطبيب وتمدرس وتنمية اقتصادية تتيح لهم فرص العمل والعيش الكريم. هل هذا ما خرجت من أجله الحسيمة في حشود جماهيرية الآن؟ نعم، مادامت الساكنة تدفقت عن بكرة أبيها إلى الشوارع، تناضل وترفع شعارات الحكرة، فلأنها متضررة، وتعاني انحباسا اقتصاديا أضر بالأسر، لهذا يجب التفكير في حلول آنية للتخفيف من حدة الاختناق، وفك العزلة عن المنطقة عن طريق فتح حوار جاد مع المجتمع المدني والسياسي للخروج بميثاق شرف يحمل برمجة مشاريع اقتصادية وتشييد بنى تحتية ضرورية لربط المنطقة بباقي مناطق المملكة، مع العلم أن هذا الإجراء قد بدأ في الشمال بمشاريع كبرى في طنجة مثلا. ولا يجب أن يقتصر الأمر على الشمال فقط، بل يجب أن يشمل جل المناطق التي تجد نفسها تعاني التهميش والإقصاء. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة لا تتوفر على العصا السحرية لحل جميع هذه المشاكل دفعة واحدة، وأن الأمور عادة ما تقاس بدراسة علمية وليس بشعارات تدغدغ مشاعر الساكنة. وفي هذا الصدد نتساءل عن الرسائل التي يحملها "حراك" الريف؟ هل فعلا يقتصر خطاب قادة الحراك، وهنا نشير إلى خطاب "زعيم الحراك" ناصر الزفزافي، على المطالب الاجتماعية والاقتصادية أم يتجاوز ذلك ويرفع سقف المطالب لمحاربة المخزن والدكاكين السياسية وفساد الإدارة، لاستعراض قوة شعبية بقيادة إسلاموية تريد إثبات الذات، وتصفية حسابات دفينة منذ إزاحة بنكيران عن سدة الحكم مع من يسميهم الزفزافي رموز الفساد أو مثلث الفساد، نظرا للإشارة إلى ثلاثة أسماء محورية تساند الفساد ويعتقد أنها "معه"(كل حرف في كلمة "معه" يرمز إلى اسم مذكور في خطاب الزفزافي). إن المثير في حراك الريف هو نوعية الخطاب الذي يُلقى أمام جماهير الغاضبين، والتحول الراديكالي في الخطاب السياسي للتظاهر، إذ خرج شاب ريفي بلغة شديدة اللهجة يخاطب بها الأجهزة المخزنية، ولقي خطابه هبة شعبية تسانده، ما يجعلنا نطرح عدة أسئلة عن نوعية هذا الخطاب الذي يدغدغ مشاعر ساكنة الريف ويذرفهم إلى الشوارع، ليس فقط للمطالبة بحقوق اجتماعية واقتصادية، بل للتصدي للمؤسسة المخزنية والفساد الإداري، وغيرها من المطالب التي قد تجر المغرب إلى ربيع عربي جديد، وهل يعي المواطن الريفي البسيط مصير هذا الخطاب الزفزافي المنفلت؟ هل يستطيع المغرب فعلا الآن تحمل تصدعات ربيع عربي جديد لا أحد منا، بما في ذلك الاستخبارات، تستطيع تكهن مخرجاته؟ من هو ناصر الزفزافي حتى "يزفزف" المغرب حكومة وشعبا بلغة لا علاقة لها بالسياسة وتقاليد الحوار السياسي؟ ومن هم قادة الحراك الشعبي في الريف؟ هل تشارك أحزاب وجماعات إسلامية في الحراك بشكل غير معلن؟ هل أصبحنا اليوم أمام نوع جديد من الحراك الشعبي بدون قيادة؟ إذن، كيف سنتحاور خارج المؤسسات؟ تنص التقاليد الديمقراطية على أن النقابات والمجتمع المدني والأحزاب وغيرها من الهيئات التمثلية هي المنوط بها قيادة حراك الشارع، لكي تتمكن من التحكم في سلميته ووضع شروط المفاوضات والجلوس على مائدة الحوار مع الدوائر المسؤولة؟ هل هذا ينطبق على حالة الريف؟ هل نحن أمام قيادة مقنَّعة؟ هل فعلا يتعلق الأمر بسكان الريف تحت زعامة شبابية جديدة أم أن هناك تنظيما سياسيا ائتلافيا غير معلن؟ تعتبر الظاهرة الزفزافية نتيجة حتمية لغياب تقعيد مؤسساتي للدراسات الإعلامية وتبسيطها في المدارس، حتى تقي عامة الشعب من الانزلاق نحو التصديق المتسرع للصورة التي أصبحت تشكل مصدرا موثوقا للخبر بالنسبة للمواطن المغربي البسيط، وهكذا يستغل بعض نشطاء الفيديو حرية التعبير على المواقع الاجتماعية، فيقومون بتصوير احتجاجاتهم بلغة متداولة بسيطة ذات لهجة تصعيدية، ثم يتم تحميله على اليوتوب أو في موقع إلكتروني يتهافت عليه الزوار. أمام إصابة النخبة المثقفة بالبكم في وجه الحكم المخزني، استأسد المواطن العادي، خاصة الشباب الحماسي المندفع منهم، وتصدر الأحداث بلغة تكسر جميع الطابوهات السياسية وتتجاوز الخطوط الحمراء، ما ألفت الأنظار إليهم من شعب عانى القمع، وأجبر على الصمت، حتى اعتقد أن الحيطان طورت آذانا تتنصت من خلالها على حواراته السياسية، فجاء محمد علوين، ومول الكاسيكيط وسكيزوفرين، والآن الزفزافي وغيرهم من نشطاء الفيديو الذين كسروا حاجز الخوف، ورددوا على مسامع المغاربة الحديث المحرم الذي عجزت شفاههم حتى على تمتمته في الخفاء. أين هي النخبة الأكاديمية النائمة لتستفيق لدراسة هذه الظاهرة الفيديوهاتية (video activism)، كما تم ذلك في دول أخرى كالصين مثلا، لماذا تتم الاستهانة بقوة الصورة في إشعال فتيل الاحتجاج ومدى تأثيرها على الجماهير؟ هل فقط بالمقاربة الأمنية سنستطيع أن نتحكم في المجال العام الافتراضي الذي أصبح يصدر لنا زعامات قد تظهر من عدم ودون سابق إنذار؟ حان الوقت لتكثيف الجهود لدراسة المجال الافتراضي دراسة معمقة، وتوفير بدائل تستطيع الدولة من خلالها تقنين مجال الصورة، وتحسيس المواطن المغربي بخطورة قرصنة مشاعره وانتمائه وهويته، لأن مجال الصورة كمجال الواقع يجب أن يخضع للتحليل والتفكيك حتى لا نسقط في تشرذم الزعامات ولا مركزة السلطة الأخلاقية، ما قد يزج بمجتمعنا في خريف عربي لا تحمد عقباه. تؤرخ خطب الزفزافي أمام الجماهير المحتشدة بالحسيمة لانفلات الخطاب الشعبوي الجامح من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع، إذ أصبح خطاب أمثال علوين يُتداول في الساحات العامة على مسمع ومرأى من الجماهير المحتشدة، تصفق وتطبل لطموح منفلت بعيد عن نموذج الحكمة والتبصر السياسي. هذا الخطاب يمثل ناقوس إنذار للدولة على انزلاق الخطاب السياسي نحو لغة المواقع الاجتماعية والفيديوهات الاحتجاجية، ما يفقد العملية السياسية نكهتها، ويدق ناقوس حروب أهلية، بل يهدد السلم الاجتماعي مستقبلا في ظل غياب تام للنخب السياسية، إن لم نقل إفلاسها أمام مهمة تمثيل الأمة وتأطير شبابها حتى تسلحهم بأدوات التعبير السياسي الرصين. إن الحراك الريفي مفتوح على نبض الشارع الحسيمي ومخرجات الخطاب الزفزافي، فمن يا ترى يتحكم في نبض الشارع؟ من يؤطر هذه المظاهرات ويحافظ على سلميتها؟ إن مسيرة يوم الخميس 18 ماي توضح بالملموس أن الأمر يتعلق بشبيبة مؤطرة وضعت سلاسل بشرية لحماية المظاهرات، ومدّ المظاهرات بجميع المستلزمات، من إنارة ومكبرات الصوت ولافتات وقنينات ماء، ورفعت شعارات تذكرنا بالمسيرات المليونية للحركات الإسلامية التي أثبت دائماً قدرتها على التنظيم الميداني للمظاهرات؟ هل هذا "الزعيم المصنّم" ناصر الزفزافي تلقى تأطيرا أو تدريبا على يد جماعة إسلامية، خصوصا أن قدرته على إنتاج الخطاب والحجاج تؤكد أنه مارس الوعظ والإرشاد لفترة من الزمن، وربما حضر مجالس النصيحة؟ ما هو انتماؤه الإيديولوجي، خصوصا وأنه صرح في أحد الفيديوهات بأن الإخوان في الريف قد يختلفون إيديولوجيا، لكن هذا لا يمنع أن يتكتلوا في جبهة واحدة كالبنيان المرصوص؟ وفي حواره الصحافي مع علي جاوات الذي نُشر في موقع "الأول" يوم السبت 20 ماي، وجه له علي سؤالا دقيقا حول رأيه في التنظيمات الراديكالية كالنهج الديمقراطي والعدل والإحسان، فكان رده ذكيا، إذ هاجم النهج، وسكت عن الجماعة. لماذا الهروب من الإفصاح عن موقف صريح من الجماعة؟ هل هي بمثابة "الواليدة"، كما صرح بذلك بنكيران في حق جماعته؟ هل خطاب الزفزافي يوحي بأنه ينتمي إلى الشبيبة اليسارية أم إلى الشبيبة الإسلاموية أم هو ربما لا منتم؟ هل خطاب الزعيم بريء أم يحمل أجندات سياسية محتملة؟ حتى نكون جازمين في موضوع براءة اللغة: لا وجود لخطاب بريء ولا وجود للغة بريئة، فحتى هذه الدراسة التي نسوقها للقارئ لا تخلو من دوافع إيديولوجية، إذن، فلنحاول معا تفكيك المسلمات الإيديولوجية التي ينطلق منها خطاب زعيم الحراك، وكيف يحاول مقاربة المنظومة السياسية بالمغرب. لهذا الغرض، قمنا بتحليل الخطاب المسجل الذي ألقاه الزعيم الريفي يوم الخميس 18 ماي في حشود المتظاهرين بالحسيمة، كما ورد في موقع الحسيمة سيتي، وخطاب آخر ألقاه من أعلى الجبل أذيع قبل المسيرة في اليوم نفسه بالموقع نفسه تحت عنوان "رسالة قوية للعالم". بعد مشاهدة الخطابين، تبادر إلى ذهننا سؤال يبعث على الحيرة نطرحه على الشكل التالي: هل يمكن اعتبار ناصر الزفزافي صورة مصغرة لزعيم ثورة الصناديق عبد الإله بنكيران؟ ما هي أوجه التشابه بين الرجلين مع فارق السن طبعا؟ لقد استقطب الزفزافي الجماهير الريفية بخطاب طهراني ضد الفساد والمفسدين، واعتمد شعبوية صريحة في خطابه تميز بين نخبة حاكمة فاسدة تسببت في تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية بالبلاد، وشعب عظيم مقدس في الريف مازال مقهورا مغلوبا على أمره، يعاني التهميش والإقصاء، فحتى كلمة "نحن المغاربة" تغيب عن خطابه بشكل ملفت للنظر. إن الخطاب الزفزافي تركيبة لغوية حماسية تهدف إلى دغدغة مشاعر المواطنين وإشعال لهيب الإحساس بالظلم، فهو خطاب يروج لأحادية الرؤية، ولا يعكس بتاتا حوارية الآراء واختلافها، ولا تنوع الشرائح الاجتماعية والانتماءات السياسية المشاركة في المسيرة، كما أنه يبدو خطابا بعيدا تماما عن عقلانية تدبير الأزمات، نظرا للهجته التصعيدية، وعدم وضوح رؤيته في طرح البدائل والحلول للخروج من الأزمة، بل حتى رؤيته للمفاوضات تسبح في ظلام دامس. هنا نطرح بعض الأسئلة التي لا تجد جوابا في الخطاب الزفزافي الشعبوي: هل الفساد بالمغرب أزمة أسماء يجب اقتلاعهم أم هي سيرورة بنيات سياسية وإدارية يجب إصلاحها بمقترحات وبدائل قابلة للتطبيق؟ ما هي يا ترى الحلول التي يقترحها الزفزافي لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الريف؟ إن المطالب الجزئية للمتظاهرين مشروعة، لكن لا تشكل حلولا بنيوية للأزمة الاقتصادية التي يكابدها الشعب في صمت، وهذا كما يعلم الجميع يحتاج سياسات وتدابير إستراتيجية حتى تتمكن الدولة من تطبيقها على الأرض، وليس في الريف لوحده، بل في جميع أنحاء المملكة في إطار جهوية موسعة. إن المغرب كله يشتكي من معضلة العطالة وقلة فرص الشغل وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، لكن أبهذا الخطاب السوداوي العدمي التيئيسي سنجبر الدولة على إيجاد الحل؟ ألا تبدو الشعبوية الزفزافية عبارة عن إعادة إنتاج خطاب زعيم الصناديق عبد الإله بنكيران في نسخته "العدلاوية" التي تحيى بها إحباطات الشبيبة الإسلاموية بالإضافة إلى انتعاشها بالقضية الأم، ألا وهي القضية الفلسطينية؟ هل بلغ السيل الزبى وضاق الاحتباس بالإسلامويين حتى انفجر خطابهم على لسان الزفزافي، فصّل فيه ما يقصده الزعيم الروحي بالعفاريت والتماسيح؟ لقد أشار الزفزافي بالاسم إلى "مثلث الشر" المسمى سابقا "معه"، كما بخس عمل الأحزاب السياسية، وأطلق عليها نعوتا وصفات تحقيرية من "بيادق" و"دكاكين"، كما وصف الحكومة بنعوت فيسبوكية، إذ صاح في الحضور قائلا: "تلك الحكومة المحكومة من وزارة الداخلية"، كما أشار إلى استمرارية البيروقراطية البصرية التي مازالت تحكم في الخفاء. هذا ونعت رئيس الحكومة ووزراءه ب"البيادقة"، أي الدمى والكراكيز التي تحركها أياد مخزنية. استفاضت قريحة الخطيب في ذم الخصوم، وبنى حجاجه على شاكلة سابقه بنكيران في ثنائية طهرانية تميز بين الحر الصنديد الطاهر والخبيث الفاسد، فوصف الريفيين بالأحرار والصناديد، وأهل الكرامة والمدافعين عن الثغور، وهدد بالدم متوعدا النظام المخزني "الفاسد" بالمزيد من الصمود والموت بكرامة. ما يثير الانتباه في الخطاب الزفزافي هو أن المطالب الاجتماعية والاقتصادية اختصرها في ثوان، بينما استهلك معظم وقته في الهجوم على الأجهزة المخزنية والدكاكين السياسية، ما يثير شكوكنا في النوايا الطيبة "للصنديد"، هل هذا فعلا حراك شعبي يتضمن مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية، أم هو هجوم وتصفية حساب مع النظام السياسي والمؤسسات التي تمثل الشعب بالرغم من الأعطاب التي تعانيها، والإصلاحات العميقة التي هي في حاجة ماسة إليها؟ هل يتطلب إصلاح المؤسسات وتطهيرها من الفساد خطابا عدميا غير مسؤول؟ من أوحى للخطيب بهذه الشعبوية؟ أين تم تأطيره على الخطابة الجماهيرية؟ ما فحوى رفع سقف المطالب واتهام الدولة بالانفصال عن قضايا مواطنيها؟ هل حراك الريف حراك شعبي متوازن يحمل في طياته تدافعا سياسيا بين الفرقاء تستطيع من خلاله الجماهير تصحيح مسار الانتفاضة والتحكم في مطالبها، أم هو حراك الزعيم الأوحد والمفكر الأوحد؟ لماذا يغيب النقد البناء في خطاب الزعيم؟ هل يتوفر قائد "الثورة" الريفية على مقاربة علمية لفهم نمط الاقتصاد الرأسمالي والأنظمة السياسية والثقافات التي ينتجها؟ هل هو واع بمدى تحكم المؤسسات الاقتصادية والسياسية الدولية في الشؤون الداخلية للمغرب؟ إن الخطاب الزفزافي نمطي مُقَوْلَب بسيط، موجه للاستهلاك من لدن الإنسان المقهور الذي يعتقد أن رفع رايات الأمازيغ والريف، وتقديس الخطابي، وتضخيم الأنا الريفية وحشد الجماهير المتعطشة للانتفاضة سيحل المشاكل الاقتصادية للمنطقة بين عشية وضحاها؟ نحن أمام مطالب اقتصادية يجب أن ندبر مفاوضاتها دون إثارة ضجة إعلامية أعطت انطباعا لبعض الجهات، نظرا لموقع الريف في خريطة المغرب، وكأنه يطالب بحرية تقرير المصير. ما معنى أن تُرفع شعارات عشرين فبراير في حراك اجتماعي ذي مطالب اقتصادية واجتماعية، ويتم تسويق الحراك وكأنه ينبثق من شعب قائم الذات. فحتى الخطاب الذي يوجهه الزفزافي إلى جموع الحاضرين، لا يتوجه به إليهم بصفتهم مغاربة، ولكن باعتبارهم شعب الريف. هذا رغم أنه يتحدث إلينا نحن "العُروبيون"-- كما وردت الكلمة على لسانه في حق المخزن-- بالدارجة. ما معنى هذه الشعارات التي رفعت في مظاهرة الريف: "أهل الريف وحنا ناسو والمخزن يجمع راسو"، "هذا الريف وحنا ناسو والمخزن يخرج برا"/ "الخطابي خلا وصية، لا تنازل عن قضية". أليست بعض من هذه الشعارات توقد النعرات الإثنية والقبلية في المغرب؟ ما معنى أن تستخدم أيها الريفي كلمة "العُروبي" في سب الآخر الشرير؟ ما هذه الشوفينية والتعصب للعنصر الأمازيغي الريفي؟ ألا يتعارض هذا مع ما تُدافع عنه من قيم الكرامة والعدالة والحق في الاختلاف؟ أهذه هي تقاليد العمل السياسي وأخلاقه التي يجب أن نلتزم بها عند استقطاب الجماهير، أم هي فوضى التصعيد والتمييز الإثني والعنصري والقذف والسب والتشهير وإهانة المؤسسات؟ من أين استقى ناصر خطابه الزفزافي؟ بعد دراسة لمجموعة من الاختيارات اللغوية للمتحدث تبيّن لنا أن هناك تقاطعا كبيرا بين الخطاب الزفزافي وخطاب جماعة العدل والإحسان، سواء في شقه الدعوي أو في شقه السياسي، إذ اقتبس الزفزافي مجموعة من المفاهيم من خطاب الجماعة. ونظرا لانشغالنا في وقت من الأوقات بدراسة أدبيات الجماعة، نكاد نجزم بأن اللسان الزفزافي تفتق في حضن هذا الخطاب أو متأثرا به؟ فجرأة الرجل على اقتحام الحشود والاستقطاب والحديث في الجموع يحتاج تدريبا وتكوينا لا يمكن أن ينمو فقط بالفطرة؟ أين اكتسب الزفزافي مهاراته الدهماوية؟ أين تكمن مظاهر التقاطع بين خطاب الجماعة والخطاب الزفزافي؟ لقد ركز زعيم حراك الريف في خطابه الشعبوي على ملامة المخزن، دون أن يقوم بتعريفه، وكرر العبارات نفسها الواردة في خطاب الجماعة، إلى درجة أنه عاد بعقارب الساعة إلى عهد البصري، وهكذا استخدم تعابير مثل "المخزن"، "جحافل الأجهزة القمعية"، "أجهزة المخزن"، "المخزن الديكتاتوري"، كما استعمل مفهوم "الدستور الممنوح" الذي ابتدعته الجماعة لتوصيف دستور 2011. افتتح الزعيم خطاباته بآيات قرآنية وأحاديث، واستخدم معجما تارة أخلاقيا ودينيا تارة أخرى، فحضر الشيطان في حديثه حين دلّل على رأيه بحديث الرسول (ص) القائل إن "الساكت عن الحق شيطان أخرس"، كما حث الناس على ألا يصطفوا إلى جانب إبليس في الدنيا والآخرة، وهذه النصيحة الدعوية تبدو جد مألوفة لدى الشبيبة الإسلامية في المجالس والحلقيات والجنائز. قام الزعيم المُنصّب بوصف سياسة المخزن بأنها تسعى إلى تحويل الريف إلى قبلة للدعارة لفائدة "بطاريق الخليج"، فاستغاث بأهله ليهبوا لنصرة إخوتهم، هذا كذلك خطاب أخلاقي حماسي يدغدغ مشاعر الشباب المتمذهب، كما يحيلنا على خطاب أحد كوادر العدل والإحسان حين تطرق لهذه الظاهرة، فنعت هو الآخر المشارقة بالخنازير الذين يشترون أعراض النساء المسلمات بدراهم معدودة. واستخدم الخطيب كلمة "بلطجية" المخزن، ليعيد بذلك إنتاج الخطاطة الإخوانية في التعامل مع النظام، إذ ما معنى كلمة بلطجة في سياق الحراك السياسي المغربي؟ في الحقيقة، يغص كلام الزفزافي بالكليشيهات والصيغ المبتذلة التي يوظفها لانتزاع موافقة الحشود وتبسيط تواصله مع الجماهير دون عناء الابتكار والمقاربة الجديدة التي يفتقر إليها كلامه. وكلمة بلطجة تبين جليا مدى تأثير الصورة على المجتمع، إذ ابتلع الجمهور معاني الكلمة، بحمولتها الثقافية الإعلامية التسويقية، وكأننا في مصر، وشاشات الجزيرة تنقل الخبر، حيث طويت المسافات بين الثقافات وانصهرت الخصوصية الثقافية المغربية، وهكذا يلوكنا التنميط الثقافي لإعلام الهيمنة في مضغة سهلة دون عناء الحروب واختراق الحدود الجيوسياسية. تتميز خطب كوادر العدل والإحسان كذلك بتقنية التحول الشيفيري بين العربية الفصحى والدارجة في الخطاب، هذا التغيير في الشفرة اللغوية يحسنه الزفزافي وبنكيران معا. لقد اتهم الزفزافي "مثلث الشر" بالاسم في خطابه يوم الخميس واعتبر هؤلاء رواد الفساد في الإدارة المخزنية، ما يحيلنا أيضاً على الشعارات العدلاوية إبان حراك عشرين فبراير، كما يحيلنا على حديث بنكيران عن نفس الأشخاص في الماضي القريب. لقد وصف الزفزافي في خطابه الحماسي علاقة الريف بالنظام المستبد بأنها علاقة عبودية، فقال: "رفضتم العبودية والتطبيل لسياسة المخزن". أليس هذا تقاطع مع رسائل الشيخ ياسين وأدبيات الجماعة في وصف الأجهزة المخزنية؟ في الحقيقة تتعدد الأمثلة، وهي كثيرة تبين جليا مدى تقاطع خطاب الزفزافي وخطاب الجماعة المتمذهبة. وفي السياق نفسه أيضاً، لماذا استشهد الزفزافي مثلا بشاعر فلسطيني كمريد البرغوثي قائلا: "يولد الحاكم العربي (وهنا قام بتغييرها بكلمة المخزن) وعلى لسانه ثلاث عبارات: مؤامرة خارجية، أياد خفية، وطرف ثالث". لماذا التركيز على شاعر فلسطيني؟ أليس هذا من باب التعاطف الإسلاموي مع القضية الفلسطينية، ونحن نعلم مدى مركزيتها في النضال الإسلاموي، ناهيك عن التيارات الراديكالية المنبثقة منها؟ لماذا لم يعلن الزفزافي انتماءه لفكر إيديولوجي، إذا كان تحليلنا صائبا؟ فما يثير الشكوك حول شخصية الزعيم المصنّم هو أنه يحاول إخفاء هويته الحقيقية عن طريق تقنية التلعثم عند ذكر الآيات القرآنية والأحاديث، إذ كيف لخطيب يستقطب الجماهير، ويتحدث لساعات بمعجم القرآن والأخلاق أن يتلعثم ويخطئ في الآيات والأحاديث أربع مرات متتالية، كما يضطر للنظر في ورقة يحملها لتصحيح ما قاله، هذا رغم بساطة الآيات والأحاديث لكثرة تداولها؟ ما هي الرسالة التي يقصد أن يبعث بها هذا الخطيب إلى الخصوم: "لست حافظا للقرآن والحديث عن ظهر قلب"؟.. لو قام بذلك مرة أو اثنين، لما أثار الشكوك، لكنه قام بذلك في كل مناسبة يستشهد بآية أو حديث، وتبدو من خلال حركاته الجسدية أنها محاولة مدروسة لإبعاد الشكوك عن هويته الحقيقية، وتسويق الخطيب بأنه من الشباب الثائر في مدينة الحسيمة، لا يخدم أي أجندة متمذهبة، بينما تظهر صور فيديو التقط إثر خطابه في مسيرة يوم الخميس معاونيين، يهمسون له بعبارات وجمل، ما يطرح السؤال حول هوياتهم وعلاقاتهم بالخطيب. وهنا ألا يتحول ناصر الزفزفافي إلى مجرد ناطق متصدر الصف باسم جهة ما؟ ومما يزيد الطين بلة هو ما نشره توفيق بوعشرين حول بطولات بنكيران في إخماد حرائق الفتن.. لماذا استفاق صوت صحافي في هذا الوقت بالذات يذكرنا ببطولات زعيم ثورة الصناديق، ويقرّع النظام ضمنيا على تفريطه في مفاوض خبير في تدبير الأزمات؟ ما علاقة بنكيران بحراك الريف في هذا السياق؟ هل أضحى بنكيران عرافا يتكهن الغيب في خطاباته الماضية، حين تنبأ في عدة مناسبات بأنه يحمي النظام من هزات الشارع؟ لماذا اشتعل فتيل حراك الريف وزادت حدته بعد أن تم إبعاد بنكيران عن الحكم؟ من له المصلحة في الركوب على مطالب الساكنة الاجتماعية والاقتصادية ليقوم بتصفية حسابات دفينة مع الدولة العميقة؟ وختاما، لماذا تصاعدت وتيرة الفيديوهات الاحتجاجية في الآونة الأخيرة؟ لماذا ظهرت فيديوهات مؤخرا تتحدث عن تهريب الذهب من المغرب، وعن وجود مناجم الذهب بتصاميم ومؤثرات تبرز سرقة الثروة من فقراء هذا الشعب؟ هل يمكن القول إن حراك الريف منعزل، أم ستتم إعادة إنتاجه بمدن مغربية أخرى؟ مادامت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية قائمة، وبلقنة النخب السياسية مستمرة، ومصداقية المؤسسات التمثيلية شبه غائبة، فسينبلج دائما فراغ مؤسساتي في المجال العام يمنح فرصة ذهبية لحراك شعبي يتدفق من الفضاء الأزرق ليملأ الفراغ، فيحتل الشوارع، ويتحرك بمواقيت وأجندات تناسب قادته من العالم الافتراضي، يتحكمون في الحراك عن بعد، لكن يظل السؤال الجوهري المطروح هو: ما هي التكلفة التي سيدفعها المجتمع في سبيل مقامرته بحراك اجتماعي لا يتوفر على نخب تتصدره ولا على بدائل جد مدروسة لإصلاح ما أفسدته بعض السياسات الخاطئة في الماضي والحاضر؟ استفيقوا يا أبناء وطني! نحن الآن أمام جيل جديد من الحراك لا تسيره زعامات على الأرض، ولا حتى زعامات مؤطِّرة مؤسساتيا ومدعومة من طرف أحزاب قوية ذات حضور وازن في الساحة أو مجتمع مدني قوي.. ضاع حراكنا مع ضياع مؤسساتنا... نحن نحيى بالصور في مجتمع الصورة والمحاكاة، لهذا فحراكنا هو الآخر أصبح يتماهى مع الصورة ويحاكي الواقع، فالكل يحمل الهواتف ويهتف بالشعارات ويصور الحراك ويضع نفسه على اليوتوب أو الفايسبوك، ثم يتباهى باللحظة التاريخية المصورة دون أن يعي خطورة انزلاق الحراك الاجتماعي إلى أجندات مجهولة. *أستاذ بجامعة شعيب الدكالي