لاشك أن مدينة الحسيمة من أجمل المدن المتوسطية في المغرب، وهي ملاحظة يتقاسمها كل زائر للمدينة بحكم شواطئها الجميلة. غير أن هناك ملاحظة مثيرة تستوقف الزائر لهذه المدينة هي الطباع الحادة لسكانها ومعاملتهم الحذرة تجاه كل قادم خاصة من المدن الداخلية والأطلسية للمغرب. لعل هذا السلوك الملاحظ والملفت النظر تحركه دوافع شتى من أبرزها الحقد دفين تجاه المخزن أو الدولة المغربية التي ارتكبت في المنطقة فظائع لا تحصى، يصنفها بعض الغلاة الريفيين ضمن جرائم الحرب التي ينبغي أن ترفع إلى الهيئات الدولية، على الأقل، في السنوات التي تلت حصول المغرب على الاستقلال. وقد انتقل هذا الحقد عبر الأجيال وساهم في تأجيجه المخيلة الشعبية للمنطقة التي اعتادت الالتفاف حول مرجعيات تاريخية محلية من أهمها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وخلق رموز تعبر عن الهوية الريفية والإنسان الريفي الذي يمتلئ عزة وكرامة ولا يرضى بالذل والمهانة. كما ساهم المهاجرين المنحدرين من المنطقة، والذين اضطر آباؤهم وأجدادهم للهجرة والنزوح في اتجاه أوربا بسبب التهميش والتنكيل الذي تعرض له أهل الريف غداة الاستقلال، في تغذية النزعة الريفية، ولا ننسى كذلك الدور الكبير الذي لعبه المخزن الذي أمعن في تهميش المنطقة واغتيال ذاكرتها التاريخية وهويتها المحلية خاصة خلال حقبة الحسن الثاني، إذ أعلن الرجل موقفه بشكل صريح في أحد خطاباته الشهيرة من ساكنة المنطقة ومطالبها الاجتماعية والاقتصادية عندما نعت المتظاهرين بالأوباش، محذرا من جبروته وغضبه. إذن، يشكل الحراك الجديد الذي انطلق بمقتل السماك محسن فكري مطحونا في شاحنة النفايات مظهرا من مظاهر هذا العداء المتجدد والحقد الدفين العابر للأجيال في المنطقة، ومن الممكن أن يتحول إلى بداية موجة جديدة من الانتفاضات الشعبية في مجموعة من المناطق من المغرب، خاصة المدن الصغرى والقرى التي تتميز بتجانس عناصرها الاجتماعية. مما قد يحدث أزمة سياسية غير مسبوقة في المغرب بحكم طبيعة الشعارات المرفوعة والتي تؤكد بالملموس الاندماج الكبير للمواطن المغربي في العولمة المتجاوزة لمفهوم الحدود الضيقة.
2- المخزن والعولمة:
لازال المخزن محافظا على مقاربته التقليدية في مواجهة الحركات الاحتجاجية، وهي مقاربة ترتكز على محورين أساسيين هما الاحتواء والقمع، فغالبا ما يتم احتواء هذا الاحتجاجات عن طريق التظيمات السياسية والنقابية التي تشكل امتدادات عميقة في المجتمع المغربي، وتسعى إلى تأطير المجتمع وتوجيه بشكل يخدم مصالح المخزن، ويخفف حدة كل صدام ممكن بين الطرفين. كما عزز المخزن احتواءه للمجتمع من خلال خلق نسيج من جمعيات المجتمع التي تسعى بدورها إلى إخضاع المجتمع وكبح جماح حركاته الاحتجاجية، فضلا عن الإعلام الذي يساهم بدوره في تأطير المجتمع ونشر الخطاب الرسمي الذي يتماهى مع مصالح الماسكين بزمام الأمور. غير أن الحراك الأخير لأهل الريف أظهر بالملموس الفشل الذريع للمخزن وعجزه عن مسايرة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم في إطار نظام العولمة، فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي إعلاما بديلا قادرا على تعويض الإعلام الرسمي، وحتى محاولات المخزن لاقتحام وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية باءت بالفشل، لأنه افتقد عنصرا حاسما يتمثل في الاحتكار، فالإعلام الجديد يؤمن بالتنافسية والحرية، ومن ثم فقد أصبح شباب الحراك في الريف وعلى رأسهم ناصر الزفرافي مهيمنين على المشهد الإعلامي في المغرب وخارجه بفعل زخمهم اللافت للنظر، بل أصبحت أخبار الحراك ويومياته مواد نشرات إخبارية دولية.
3- شباب الحراك والأحزاب السياسية والمجتمع المدني:
أظهر الحراك عجز الأحزاب السياسية على النفاذ إلى عمق المجتمع المغربي، فقد فشلت هذه الأحزاب السياسية في احتواء الحراك ولعب دور الوسيط بين المحتجين والدولة، بل إنها كرست الصورة النمطية للمواطن تجاه الحزب باعتباره أداة مخزنية
طيعة، ووسيلة لتحقيق مصالح فردية انتهازية، كما أن تراشق التهم بين هذه الأحزاب حول المسؤولية في اندلاع هذه الاحتجاجات يعبر عن مأزقها الكبير وإفلاسها السياسي، مما قد يدفع المخزن إلى إعادة النظر في هذه الأدوات التي أصبحت عقيمة وغير قادرة على لعب الأدوار المنوطة منها وفي مقدمتها احتواء الاحتجاجات وتهذيب الخطاب الشعبي تجاه الدولة. كما عكست العديد من جمعيات المجتمع المدني الارتباك الكبير للمخزن في مواجهة أبناء الريف، إذ عبرت من خلال بيانات عن استنكارها للاحتجاجات، ودعت السلطات إلى إخلاء المرافق العمومية باستعمال القوة إن اضطرت إلى ذلك. وهو موقف يتماهى مع تصريحات زعماء الأغلبية الذين اتهموا زعماء الحراك بالانفصاليين، وهي بيانات كما يبدو من شكلها ومضمونها، مفروضة من قبل وزارة الداخلية.
4- الزعيم الشعبي/السياسي الرسمي
بلغة عربية فصيحة ودارجة معبرة وريفية مؤججة للعواطف وثقافة ذات مرجعية دينية وتاريخية تنهل من أقوال ومواقف زعيم الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، استطاع ناصر الزفزافي أن يملأ الدنيا، فقد أصبحت أخباره مادة مطلوبة تتسابق المواقع الالكترونية على جمعها لتحقيق أكبر النسب من المشاهدات، كما أضحت الآذان معتادة على خطاباته الجريئة. لاشك أن الرجل يتميز بمجموعة من المواصفات التي جعلت منه في ظرف وجيز أيقونة الحراك ورمزه، في مقدمتها الكاريزما والخطابة وفصاحة اللسان، إنه إنسان تواصلي بامتياز، قادر على الإقناع ودغدغة المشاعر، والتحكم في الجمهور، وهو ما يفتقده الساسة المصطنعون للأحزاب السياسية الذين يخونهم الكاريزما والقدرة على الإقناع، والتحكم في عدد غفير من الناس، ولا شك أن ناصر الزفزافي هو امتداد لمجموعة من الزعماء الشعبيين الذين انبثقوا من عمق المجتمع، غير أن عددا منهم ارتموا في أحضان السلطة، وتم تدجينهم في إطار أحزاب أو جمعيات.