ليست كل الحركات الاحتجاجية تنطوي على فكرة السوء، وخصوصا الاحتجاجات الاجتماعية، هذا ما استنتجته من خلال اضطلاعي على كتابات علم النفس الجماعي وعلم النفس الاجتماعي، فمهما تكن النيات الذاتية لأصحابها، فهي تعبر و تنبه بشكل ما إلى وجود شيء معيب في مسلسل التنمية، خلل في العجلة الاقتصادية، أو عطب ما في السياسات العمومية، رغم ما قد يعتري الفعل الاحتجاجي المعبر عنه من ممارسات و سلوكيات لا حضارية، فالمفكر السوري هاشم صالح يذهب إلى كون "روح الجماهير" هي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، فيما يضيف بعض الباحثين أن الجماهير مجنونة بطبيعتها، وهي تشبه الأوراق التي يلعب بها الإعصار ويبعثرها في كل اتجاه قبل أن تسقط على الأرض يورد المؤرخ والباحث الفرنسي غوستاف لوبون، الذي أردف في كتابه " سيكولوجية الجماهير" أن الجمهور يمكن أن يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وأن كل شيء يعتمد على الطريقة التي يتم تحريضه أو تحريكه بها. فأحداث الحسيمة، ليست بمعزل عن خلاصات الدراسات الاجتماعية والنفسية في هذا الصدد، فهي ينطبق عليها ما ينطبق على الجماهير في كل مناحي ومناطق العالم، لكن ما يخيفنا حقا هو الذي أخاف الكثيرين، ألا وهو أن ينقاد الحراك من منطلق واعٍ إلى هدف غير واع، وهو ما أدى بالأغلبية الحكومية للخروج ببيان تعبر فيه عن خطر تجاوز الخطوط الحمراء، المتمثلة في عدم المساس بتوابث الأمة ومقدساتها، لكن، و كما يقول المفكر " تارد " :" إن الفكرة الشائعة عن الجماهير بأنها فقط مدمرة وتحب السلب والنهب والشغب من أجل الشغب هي فكرة خاطئة "، لذا سنسبر أغوار الحراك الحسيمي من مدخل المطالب الاجتماعية بحسن نية على شكل سؤال: هل يفترض في المواطن الحسيمي و كل المواطنين أن يستوعبوا أكاديميا أين تبتدئ و أين تنتهي أشكال الاحتجاج والمطالب ؟. للجواب على هذا السؤال، سأستشهد بما جاء في أطروحات " ويلهلم رايش " حول سؤال ما الوعي الطبقي، إذ يؤكد على أن المواطن البسيط غير معني بمعرفة السياسات العليا أو ما يسمى بالسياسات الإستراتيجية، و إنما ما يهمه هو ما يلاحظه ويعانيه في معيشه اليومي، فالمصلحة العليا للوطن بالنسبة للمواطن البروليتاري والطالب والفلاح الصغير تكمن في الكرامة والعدالة، وأن المصلحة الأولى بالنسبة له، هو وجود مدارس كافية، مستشفيات وحدائق عامة ، و عمل لائق له ولأبنائه. لذا، فحضور وعي بشكل الاحتجاج لدى ساكنة الحسيمة غير ذات نفع، حيث المطالب الاجتماعية تطغى على كل فعل وقول، ويبقى الأهم، هو وجود حكومة قادرة على ضبط الأوضاع بصفتها قيادة، بعيدا عن المقاربة الأمنية الضيقة، " فالقيادة – يقول ويلهلم رايش – التي لا تسبق الجماهير في تقييم الأحداث والتطورات، والتي لا تتوقع وتستبق، ليست قيادة، و إنما جهاز يعرقل التطور الاجتماعي"، والحال، أن ما يقع في مدينة الحسيمة لحدود الآن لم تستطع السلطات سبر احتمالات تطوره، وربما من خلال البيان الأخير للحكومة " الأغلبية الحكومية " لم يعكس الموقف الواجب اتخاذه، الذي يضمن ثقة الحسيميين في الغد، بل في السياسات العمومية برمتها المرتبطة بتقليص الفوارق الاجتماعية ومحاربة الإقصاء والتهميش. خلاصة القول، أن المطالب الاجتماعية ليست مطالب انفصالية، رغم بعض الأحداث التي أضرت بالحراك، كرفع "الأعلام" المميزة للريف، والتي لربما رفعت كاستفزاز لجهة ما بغية نيل المطالب و الجلوس إلى طاولة الحوار، وهي خصائص عرقية تدخل ضمن أساليب الاحتجاج عبر العالم حتى دونية نية سلك مسلك الانفصال، وهو بالمناسبة سلوك مدان ولا يختلف فيه اثنان عاقلان، ولكن هذا لا يلغي أن تقصيرا ما حدث منذ الاستقلال في منطقة الريف، وأن السلطات المنتخبة والمركزية في مرات عديدة لم تستوعب ولم تدرك ما الحاجات التي ينبغي تلبيتها لدى الساكنة المحلية وكيف السبيل إلى ذلك، فالحراك ليس مشيئة الشيطان كما يريد البعض أن يسوقها إلينا مغلفة بالتفاصيل، وليست إرادة الله كما يريد البعض الآخر وصفها بكونها طاهرة لا يأتيها الباطل من حيث أتت، ولكنها إرادة ساكنة مسيسة وغير مسيسة وجب التعامل معها بخلفية أن هؤلاء متضررون ويرمون إلى نزع الحيف عنهم ، وهو واضح وضوح الشمس. وفي الأخير، و بملاحظة مجموعة من التجارب العالمية، يتبين أن الحوار والنضج في التعامل مع الحركات الاحتجاجية هو السبيل الوحيد للمضي قدما نحو الأفضل، وما عدا ذلك فهو ريح وسراب، ونجانا وإياكم الله من شر الأحداث المستعصية على التحليل والفهم.