معضلة الرئيس الفرنسيّ المنتخب إيمانويل ماكرون كمعضلة هيلاري كلينتون،والى حد ما باراك أوباما في السابق: إنّها الجمع بين التقدّميّة في القضايا الاجتماعيّة والثقافيّة،أي في قضايا العنصريّة والاقليات والجنسويّة،والمحافظة في القضايا الاقتصاديّة، أي على مستوى العدالة وتوزيع الثروة. هذه المفارقة، التي باتت تتهدّد الان الوعي اليساريّ المعلوم، المشتت راهنا بين التقدّميّة الاقتصاديّة والتقدّميّة الاجتماعيّة، يعبر عن ازمة اللحظة الراهنة من التطوّر الاقتصادي والثقافي في نفس الوقت . هكذا نرى، مثلاً، مزايدات في التقدّميّة الاجتماعية من أجل تخطي الموضوع الاقتصاديّ وتفاديه. وهذه مغالطة بما فيه الكفاية . كذلك نتابع مزايدات في التقدّميّة الاقتصاديّة تفضي بأصحابها إلى شعبويّة تجعلهم على صف القوميّين والعنصريّين من كلّ اتجاه. وهذه رجعية بما فيه الكفاية ايضا. في فرنسا، تطرح هذه المشكلة بشكل اشد من غيرها من البلدان الغربيّة المتطورة : فعلى المستوى الاقتصاديّ ذاته نواجه ازدواجاً حادا:الفقر والبطالة, وخصوصا بالضواحي وفي المناطق الصناعيّة التي صرفت عليها، أكثر من المعدّل المتوسط في البلدان المماثلة. لكن بالمقابل، فالتطور التقنيّ ومستوى الإنتاجيّة أقل من المعدّل المتوسط، ومعهما تحجر بيروقراطيّ في التشريع المرتبط بالتشغيل وسوق الشغل. المستوى الأوّل من المعادلة يتطلب الإنفاق على المخططات الاجتماعيّة وخلق فرص الشغل،خصوصا للشباب. المستوى الثاني منها يستوجب طمأنة رؤوس الاموال وتخفيض القيود على حركتها من أجل أن الاستثمار. التوفيق بين المستويين بالغ الصعوبة. هذه الصعوبة هي ما وعد ماكرون إنّه سيتغلّب عليها بتمهل وعلى مراحل وبانتقائيّة . قد يتوفق وقد لا يتوفق قد يقدم على ذلك جدّيّاً وقد لايقدم . ما سبق يشير إلى مسألة اصبح من الصعب تخطيها والقفز عليها. إنّ عالم اليوم اصبح أشدّ تعقيداً الى حد كبير ممّا تفترضه الإجوبة الواحدة الحاسمة والناجزة. أمّا الذين يزعمون امتلاك هذه الإجابة، واثقين من أنّهم توصلوا لهذه الحقيقة، فهم، في أحسن الظن بهم، كذّابون . لقد اطلعنا على مدى القرن العشرين على الكثير من التجارب قال أصحابها، بخطابات مختلفة، إنّهم يملكون هذه الإجابة الحاسمة. هذا ما ادعته الشيوعيّة. وهذا ما ادعته الفاشيّة . التجربتان انتهتا إلى كارثتين كبيرتين. أخيراً، وعد دونالد ترامب بشيئ من هذا القبيل . النتيجة كانت اعتذارات متتالية عمّا سبق أن وعد به . إنّه، بعد الارتفاع في عالم الاوهام، يعيد المشي المتعثّر على أرض الحقيقة . بلا شك فأنّ أوضاعاً كهذه، انتقاليّة وملتبسة وغير مطروحة من قبل، تستوجب الكثير من التجريب. وإيمانويل ماكرون وعد، باسلوبه وبطريقته، إنّه سيجرّب. وهذا طبعا لا يكفي، لأنّ هذا الحياد البريئ اتجاه الأيديولوجيّات, والتوجهات القديمة لا ينفي احتمالات الميول المسبق، إمّا بخلفيّات طبقيّة أو بخلفيّات فكريّة أو للاعتبارين معاً. مع هذا، يظل أنّ الإجوبة القاطعة هي دائماً الأخطر, ومارين لوبن، شانها شان جان لوك ميلونشون، صاحبة إجوبة قاطعة، واحدة وحاسمة. لهذا راينا زعيمة اليمين المتطرف تبحث عمّا هو مشترك بين برنامجها وبرنامج زعيم اقصى اليسار. والواقع أنّ المشترك هو بالضبط أنّ الاثنين يتفاديان التعقيد الشديد, معتمدين إجوبة بسيطة وخلاصيّة مضمونها الهرب من هذا الواقع . وقد يقال بحقّ إنّ التجريب والتردد لا يوفران القدرة التعبويّة التي يوفرها كذب الإجابة القاطعة و الواحدة.وهذا سلبي بما فيه الكفاية في وصف مقدار التقدّم والذكاء الذي وصلته إنسانيّتنا. إلاّ أنّ الثابت أنّ التردد والتجريب مطابق للواقع واشبه لتعقيده.مما يجعلهما،بفعل الرقابة الديموقراطيّة،أقدر على اختراقه واصلاحه.وفي هذا المعنى،كان يوم التصويت، بين ما كان،اختياراً بين عقلتين.