يتزامن نشر هذا المقال المتعلق تدريس المواد الفنية مع انتهاء تنظيم الأسبوع الدولي للتربية الفنية الذي أقره المؤتمر العام لليونيسكو في دورته 36، موعدا سنويا دوليا خلال الأسبوع الرابع من شهر ماي، حيث تنظم الدول الأعضاء والحكومات والمنظمات المهنية والمدنية والباحثين والمهتمين برامج وأنشطة علمية وثقافية تستهدف النهوض بأدوار التربية الفنية بأوطانهم، وسيستمر هذا لغاية سنة 2025 . وقد سبق لهذه المنظمة أن عقدت مؤتمرين دوليين حول التربية الفنية سنتي 2006 و2010 ، توجت بإصدار توصيات وتقارير ووثائق تتبنى وتؤكد في جوهرها على مقاربة تدريس المواد الفنية ضمن المناهج الدراسية. فلماذا برأيكم تولي هذه المنظمة الدولية كل هذه العناية للفن بالمدرسة؟ لا تربطني أية علاقة بهذه المنظمة الأممية ، وأسوقها هنا فقط كنموذج للمؤسسات الدولية ذات الخبرة العلمية والميدانية في ميدان التربية والتعليم والثقافة، وأخاطب من خلالها الذين يسعون لإبعاد تدريس المواد الفنية والمداخل الإبداعية خارج المناهج الدراسية، والتحذير من اختياراتهم غير محسوبة المخاطر، وما قد يترتب عن توجههم التربوي والتعليمي المقتصر على تدريس اللغة والعلوم والتقنيات، من آثار سيئة على مخرجات المدرسة المغربية. إن الدول والحكومات التي تبنت خيار تقوية وترسيخ التربية الفنية والإبداعية بمنظوماتها التعليمية، وأقرت إجبارية تدريس الفنون التشكيلية والبصرية، والموسيقى والفنون الكوريغرافية والمسرح ...، إنما التفت حول هذا القرار داخل هذه المنظمة، بعد أن اتضح لها بلغة البحث والعلم والتجربة، أن هذه الحقول التعلمية لها بالغ الأثر على التكوين الشامل والمتكامل للذات، وأن سيروراتها التعلمية تسمح بتطوير هام لمهارات الإبداع والابتكار والقدرة على المبادرة لدى الأطفال والشباب، وبتخصيب خيالهم وذكائهم العاطفي وتنمية الحس النقدي لديهم واستقلالية ذواتهم، وتربيتهم على النزوع نحو حرية التفكير والفعل. ولعل هذه الإمكانات الذهنية والأدائية هي التي أضحت تكتسي أهمية خاصة في مواجهة تحديات مجتمعات القرن 21، التي هي رهانات ذات صبغة اجتماعية وثقافية واقتصادية، تستدعي طلبا متناميا على الطاقات البشرية ذات القدرة على الابداع والابتكار، المتملكة للمرونة والتأقلم مع مختلف متغيرات وشروط التفكير والفعل والإنتاج. ومعلوم جدا أن العالم يتجه اليوم نحو انقراض آلاف المهن والخبرات البشرية، أمام الاكتساح القادم لصناعة الروبوتيك، القائمة على تشغيل الكائنات التكنولوجية والرقمية عوض الإنسان، حيث في غضون سنوات قليلة لن يعود بمقدور ملايين العمال والمستخدمين منافسة هذه "الكائنات" في إنجازها لملايين العمليات الذهنية واليدوية التي تنفذها بمهارات ودقة عالية جدا تفوق بكثير الأداء البشري. لهذا، فالأنظمة التعليمية مطالبة بالتطور وفق هذا الوضع الجديد، الذي لم يعد فيه مكان للنقل والتقليد. والتعليم الفني يمكن أن يزود المتعلمين والطلاب بالخبرات والأدوات التي تسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم والتفاعل النقدي مع متطلبات عالم المستقبل والانخراط بفعالية في تحدياته، على اعتبار أنه يدمج التجاوز والابداع والابتكار ضمن مساراته البحثية والتعلمية. راهنا، تعاني مجتمعاتنا بشدة من فجوة يتزايد حجمها يوما بعد يوم بين منظومة المعارف ومنظومة القيم. ويرجع ذلك للمناهج الدراسية التي تنمي التعلم لصالح المهارات المعرفية على حساب الخبرات العاطفية والحسية. وهذا من شأنه أن يفاقم تراجع القيم في علاقاتنا الإنسانية كما يؤكد الكاتب والبروفيسور في علم الأعصاب وعلم النفس أنطونيو داماسيو Antonio Damasio بجامعة جنوب كاليفورنيا، صاحب مؤلف خطأ ديكارت: العاطفة، العقل والدماغ البشري 1994، على اعتبار أن المحددات الوجدانية والعاطفية جزء لا ينفصل عن التفكير والفعل، وصنع القرار وإصدار الأحكام. وأن السلوك الصالح الذي هو أساس بناء المواطنة، يتطلب قيما والتزاما عاطفيا. لهذا يعتبر داماسيو أن التربية الفنية تسهم بشكل جيد في تحسين التوازن بين النمو العاطفي والنمو المعرفي، وبالتالي تعزز ثقافة السلام، ولعل هذا يذكرنا بقولة الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي " الفن سيصون العالم "، نعم، ممارسة وتلقي الموسيقى والفنون التشكيلية والدرامية وغير ذلك من الأجناس الإبداعية تأسس لمشترك إنساني، للغة عالمية يتواصل بها مواطني العالم، لأنها تودع بدواخلهم عاطفة وقيمة جمالية تمنعهم من ارتكاب الحماقات والقباحات، وتهذب نفوسهم وتزرع فيها بذور نبذ الهمجية والصراعات. إنها السبيل لردم الهوة بين المعرفة والعاطفة. وغني عن البيان أنه بالقدر الذي تكون فيه الفنون داعمة للحوار والتواصل العالمي، إلا أنها في الآن ذاته يمكن أن تكون أداة هيمنة لثقافات على حساب ثقافات أخرى، ويحدث هذا حينما يختل مستوى إنتاج وانتشار الأعمال الفنية والإبداعية بين الشعوب والثقافات، وهذا معناه أن المجتمعات المبتكرة المنتجة للفن بقوة إبداعية وجمالية وحضور دائم، تنتشر بكثرة، وبالمحصلة تصبح الأكثر هيمنة من الناحية الثقافية. ولنا أن نتأمل إبداعاتنا الفنية ونموقعها في سلم التداول العالمي، وبالتأكيد سوف لن نتفاجأ بكون أوربا وأمريكا تتقاسمان المبيعات المالية للمنتجات الفنية على مستوى العالم، وتصدران الأنماط الفنية التي تعكس هويتهما الجمالية وتؤكد هيمنتهما الثقافية، الشيء الذي يعجل بانمحاء الثقافات المحلية ومظاهرها الجمالية، التي تشكل عنصر تماسك اجتماعي وشعور بالانتماء المشترك للوطن. ألا ينبغي أن يدفعنا هذا للقلق حيال وضع يهدد وجودنا الحضاري في مستقبل الإنسانية، والتساؤل عن الكيفية التي نضمن بها حضور هويتنا الثقافية والجمالية في العالم، فضلا عن مدى تشبع أبنائنا وبناتنا بثقافتهم واعتزازهم بها وتفاعلهم القوي مع تداعياتها الجمالية، في الوقت الذي يمارسون فيه انفتاحا محمودا على ثقافات أخرى، ويستدمجونها بسلاسة ضمن أنماط عيشهم وسلوكهم الاجتماعي، بالنظر لجمالياتها التي لا تقاوم، وتفردها باستعمال عميق للخيال، ومواكبتها الوفية للمستجدات العلمية والتكنولوجية. ألا تعتبر التربية الفنية والجمالية والإبداعية بالمناهج التعليمية اختيارا صائبا في اتجاه دعم تمكين المغاربة من امتلاك سلاح الابتكار والانفلات من الهيمنة الثقافية، ومنه إلى انخراطهم في الحياة الثقافية والفنية للبلاد، وتقوية الرأسمال الثقافي الوطني بالتجديد والإبداع. *باحث فني وجمالي