السياق الراهن والأهمية قدمت هذه المداخلة في إطار أشغال اليوم الدراسي الذي نظمته اللجنة الدائمة للخدمات الاجتماعية والثقافية وانفتاح مؤسسات التربية والتكوين على محيطها لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وذلك إسهاما في التفكير حول المداخل الاستراتيجية الكفيلة بالارتقاء بالمدرسة المغربية، بتاريخ 23 أبريل 2015، بمقر الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالرباط. توطئة: بالرغم من أن خريطة تدريس المواد الفنية بالمنظومة التعليمية شهدت توسعا نسبيا على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، حيث أدمجت ببعض مؤسسات التربية والتكوين، ويتعلق الأمر هنا بالفنون التشكيلية والتربية الموسيقية. كما أن بعض المسؤولين المتعاقبين على قطاع التربية الوطنية بذلوا بعض المجهودات، واتخذوا قرارات ساهمت في تعزيز مكانة هذه المواد ضمن الهندسة البيداغوجية للمناهج والبرامج، فضلا عن مبادرات عديد الفاعلين من أجل تعميمها وتمكين أكبر عدد ممكن من التلاميذ من الاستفادة من برامجها الدراسية تدريجيا. إلا أن منظومة التربية والتكوين في الوقت الراهن، لم تتمكن بعد من استيعاب وتنزيل الرؤية التربوية الخاصة بتدريس الفنون ضمن مناهجها التربوية والدراسية والتكوينية، خصوصا وأنه لا زال هناك تبني لسياسة الشح الدائم للإمكانات المالية المرصودة لهذا المجال منذ الاستقلال. فبعد أن كان منتظرا الاستمرار في تثبيت مكتسبات الدرس الفني والجمالي بالمدرسة المغربية ودعمه ببرامج ومشاريع جديدة تمنحه نفسا جديدا، عادت حالة من اللاستقرار وعدم الاطمئنان لوضعية ومستقبل تدريس المواد الفنية بالمنظومة التلعيمية، وهذا راجع لطبيعة الإجراءات الإدارية التي اتخذتها مؤخرا وزارة التربية الوطنية حول هذه المواد، لعل أبرزها التوقف عن إسناد مناصب مالية للتكوين الأساس للأساتذة منذ ثلاث سنوات على التوالي ونحن على مشارف السنة الرابعة، زيادة على إقرار تدابير وزارية جديدة، تسعى لإخراج تدريس المواد الفنية من ضمن المناهج والبرامج ومحاولة إلحاقها والاكتفاء ببعض أنشطتها ضمن برامج الحياة المدرسية، الأمر الذي سيسهم في إضعاف المكانة البيداغوجية للدرس الفني ضمن المسار التكويني للمتعلمات والمتعلمين. فالتراكم الذي حققه المغرب في مجال تدريس الفنون، ولو أن رصيده يظل متواضعا بالنظر لما كان مأمولا. حيث أن البرامج والمشاريع التي تضمنها الكتاب الأبيض المعد على ضوء الميثاق الوطني للتربية والتكوين، كانت قد أسست لمرحلة متقدمة، وترجمت عمليا مشروع التخصصات الفنية والقطب الفني بالمنظومة التعليمية، انسجاما مع الاختيارات والتوجهات الكبرى لمنظومة التربية والتكوين وأجرأة لتدابيرها، بدأت تحدث تراجعات عن توجهاته، والخروج عن سيرورته، الشيء الذي أضحى يشكل هدرا للمجهودات السابقة وتناقضا مع المداخل الكبرى الذي ارتكز عليها الإصلاح التربوي. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن تصور العمل بمدخل بيداغوجيا الكفايات، مع تغييب للمهارات والقدرات الإبداعية والتواصلية التعبيرية والبصرية والجمالية والتذوقية لدى المتعلمين، و هي قدرات تتطور بالدرجة الأولى عبر تدريس المواد الفنية عموما. بمعنى أنه هناك مدخلا للتدريس باختيار بيداغوجي منفتح وشامل، ولكن في الآن ذاته مشروط بإقصاء صنف من الذكاءات والقدرات الطبيعية لدى التلاميذ. إنه تقييد لا ينسجم مع روح وفلسفة بيداغوجيا الكفايات، التي تفترض تدريب الأطفال على تعبئة واستثمار كل مقومات شخصيتهم وإمكاناتهم الذاتية، لإقدارهم على التعامل والتفاعل مع مختلف الوضعيات التي يواجهونها سواء داخل المدرسة أو خارجها. على ضوء ما سلف، نتساءل قائلين، أين تتجلى أهمية تدريس المواد الفنية بالمدرسة؟ ومن أين تستمد مشروعية وجودها بالمنهاج التربوي؟ ولماذا يجب تأكيد أو اعتبار الفنون ذات أهمية وأساسية بالنسبة لمتعلم اليوم، في حين أنها كانت تعتبر سابقا في عداد المجالات غير المفيدة ومنعدمة المردودية بالمفهوم المادي؟ هل لا زال سؤال تدريس المواد الفنية يبحث له عن جواب في الزمن الراهن للمدرسة، حيث اكتسحت الصورة والموسيقى والممارسة الفنية والثقافة الجمالية مختلف مناحي الحياة العامة؟ وكيف يمكن إقناع المجتمع ومن خلاله الآمهات والآباء بالجدوى من إدراج تعليم وتربية أبنائهم على الفن ضمن المقررات الدراسية؟ ما طبيعة الخطاب الذي يمكن أن يوظف أمام أسئلتهم وهواجسهم ذات الطبيعة البراغماتية ؟ أسئلة كثيرة ومواقف عديدة يمكن أن تطرح في هذا السياق، وهي بحاجة لكثير من النقاش، و من زوايا وبمقاربات متنوعة، قد تكون فيها العودة للتاريخ التربوي للمدرسة وللمرجعيات الفلسفية و المعرفية والبيداغوجية التي تؤطرها، ضرورة منهجية. يحاول هذا النص الإسهام في إغناء هذه المطارحات، عبر عرضه بعض الإضاءات حول سؤال تدريس المواد الفنية بالمدرسة. الفن، جزء من المعرفة الإنسانية إن المعارف والخبرات والثقافة والقيم والممارسات الاجتماعية المرتبطة بالفن عموما، والإبداعات الجمالية المادية على وجه الخصوص، التي أنتجتها وراكمتها البشرية على امتداد العصور والحضارات، إنما تدخل في إطار المعرفة الإنسانية. بل أن المجتمعات التي وصلت لمستوى من النضج الحضاري والرقي الإنساني والتقدم العلمي، أضحت تعترف بالفن من الناحية العلمية، باعتباره حقلا معرفيا مستقلا وقائما بذاته و يحتل موقعا هاما ضمن العلوم الإنسانية، له أدواته ومفاهيمه ومرجعياته. وبالقدر الذي كان حاضنا لكثير من المعارف والمهارات والخبرات والعلوم، الإنسانية منها والبحثة، و كان أيضا سباقا للبحث والإنتاج من داخلها، واستمر حضوره ضمن غيرها من الحقول المعرفية، وساهم بشكل هام في تطورها والتأثير فيها باستمرار. فإنه كذلك تأثر بمختلف العلوم، التي أسهمت ولا زالت تسهم في تطوير مجال الفن، وتفتح بشكل دائم ضمن بنياته مساحات جديدة للتفكير الجمالي والتقني. وإذا كانت المدرسة تأخذ على عاتقها إحدى الوظائف النبيلة والكبرى المتمثلة في تمكين الأطفال والمتمدرسين على حد سواء من الولوج للمعرفة، دون ميز، فإنها مجبرة وفق هذا المنطق، على تخصيص مساحة للتربية الفنية بشتى أصنافها ضمن زمن التعلم والحياة المدرسية، باعتبار المعارف المدرسية التي تروجها المواد الفنية هي جزء من المعرفة الإنسانية الشاملة، وغير ذلك هو كسر لوحدة المعرفة، واستعمال سيء للمدرسة ولسلطتها التربوية والاجتماعية والثقافية أمام المعرفة، ومس همجي بجوهرها وبتماسكها، وبالمحصلة هو حرمان ظالم للمتعلمين من حقهم الأساسي في التعلم غير القابل للتجزيء. إن تدريس المواد والتخصصات الفنية بالمنظومات التعليمية والتربوية للمجتمعات التي نصفها بالمتقدمة، لم يعد محط نقاش أو تساؤل، بل هو سائر في التوسع والتطور، وهذا ما يجعلنا نفهم اليوم سر حرص الفرنسيين مثلا منذ سنة 1855م إبان إقامتهم المعرض الدولي بباريس، على إعادة إحياء التقاليد الجمالية للرسم في سياق التنافس الأوربي، خاصة تسابقهم الصناعي والاقتصادي ضد الأنجليز، بعد تداعيات المعرض العالمي الأول بلندن سنة 1851م، حيث سيعمد نابوليون الثالث أنذاك إلى تخصيص جناح للفنون الجميلة، وللفن الصباغي الفرنسي على وجه التحديد. لقد أظهروا بذلك وعيهم المبكر بأهمية الذكاء الجمالي والفني في مسار التجدد والتطور المجتمعي والتنافس الحضاري. فبعد أن انطلقوا في تعميم الاطلاع على المعرفة الفنية من خلال مؤسسة المتحف نهاية القرن الثامن عشر، كأول مؤسسة تربوية عمومية أرجعت الاعتبار للإبداع والتراث الفني، والحفاظ عليه باعتباره إنتاجا معرفيا وماديا، والحرص على التعريف به لكل الأجيال وتمكينها من حق الولوج إليه، والاستفادة من خدماته التعليمية والتكوينية، بعد أن كان ذلك حكرا وامتيازا لنخبة من المجتمع، مرورا بتجربة إحداث مدارس الفنون الجميلة (les écoles des beaux arts) والمعاهد الموسيقية (les conservatoires de musique)، التي لعبت دورا محوريا في ترصيد الخبرة الفنية وتجديدها وتطويرها، وتكوين أجيال جديدة من الفنانين المحترفين، و بمأسسة تعلم الفنون بمؤسسات التكوين والبحث، كتخصصات معترف بها بالأكاديميات والكليات والمعاهد الجامعية العليا، الشيء الذي ساهم في انبثاق تخصصات فنية لا حصر لها، حتى أصبحنا نسمع بعلوم الفن، "les sciences de l'art " أو كما يعبر عنه الألمان ب " Kunstwissenschaft "، وصولا لتدريس الفنون التشكيلية والموسيقى بالمدارس العمومية، ومنح الحق في تعلمهما لجميع الأطفال منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر " النموذجان الفرنسي والكندي"، فدرس الفنون التشكيلية مثلا يعود تاريخه بالمدرسة العمومية بفرنسا لما قبل سنة 1880م . كل هذه العوامل والتراكمات ستمهد لظهور عهد جديد للتعليم الفني، الذي سيحتضن مختلف الممارسات الفنية الكلاسيكية منها والمستجدة، وسيمكن شريحة كبيرة من الأطفال والتلاميذ والطلبة من الاستفادة من مسارات تعليمية وتكوينية فنية، وسيسهم كذلك في توسيع مساحة الخبرات والمعارف التي تقدمها المدرسة. فالنظام التعليمي الفرنسي الحالي على سبيل المثال، يتيح الحق في تحضير ثماني تخصصات فنية للباكالوريا، ( الفنون التشكيلية، المسرح، الفنون التطبيقية، السينما والسمعي البصري، الرقص، الموسيقى، تاريخ الفنون، فنون السيرك )، هذا دون الحديث عن إمكانية الولوج ومتابعة الدراسات العليا والمتخصصة بمئات المدارس والكليات والمعاهد. من المؤكد، أنه لو لم يكن يتعلق الأمر بمعرفة إنسانية، والحق من تمكين الجميع من الاستفادة منها، لاختارت هذه المجتمعات منحى آخر في التعامل مع موضوع الفن. الإمكانات الذهنية التي يستدعيها الفن، هي جزء أساسي من الذكاء الإنساني: إن الدماغ البشري لا يشتغل فقط باللغة والأرقام والتفكير المنطقي، بل هو بنية ذهنية متكاملة ومتجانسة ونسقية، يحضر فيها بنفس القيمة أيضا النقد والإدراك والإبداع والخيال والوجدان والأحاسيس والعواطف، حيث أن كل مكون ذهني منها، لا يمكن أن يتطور في غياب المكونات الذهنية الأخرى. إنها الحقيقة العلمية، التي تدعونا ألا نسمح بأن نفرض على الطفل النمو والعيش بنصف قدراته الذهنية، أي بنصف دماغ، ولا يحق لنا أن نتجاهل إمكاناته الفطرية والعقلية على التخيل والإبداع والتفاعل العاطفي، فاختياراته وتوجهاته المستقبلية تتحدد بمدى انسجام تكوينه وتعليمه مع مختلف إمكاناته البيولوجية والذهنية والسيكولوجية. كما أنه ينبغي علينا التوقف عن الاعتقاد بأن درس الفنون التشكيلية تتحدد وظيفته فقط في تعليم الرسم، أو أن الدرس الموسيقي ينحصر دوره فقط في تعليم العزف على الآلة، أو أن حصة المسرح هي مجال للتمثيل والفرجة فقط، إن دور الدرس الفني يتجاوز هذا المستوى، فهو زمن لبناء المعرفة والثقافة والخبرة الجمالية، هو لحظات للاكتشاف والبحث، هو اشتغال على الخيال والابداع والتذوق والحساسية الإنسانية، هو زمن لتطوير التفكير والذكاء. لذلك فتدريس الفنون بالمدرسة لا يحمل من وراءه طموحا لتكوين الفنانين كما يتمثله الكثير من الناس، ولا ينبغي أن يكون هذا هو أفقه الوحيد. والتربية الفنية ليست مادة ثانوية أو غير أساسية كما يحلو للكثير أن ينعتها بهذه الصفة، بل هي مادة أساسية لتطور الذات ولنموها المعرفي، وهذا ليس موقفا يطرح من باب المزايدة أو المرافعة العاطفية، بل لأنها الحقيقة العلمية بكل بساطة. كل ما هنالك، أن عامة الناس ينطلقون من تمثلات خاطئة وأحكام جاهزة في التعامل مع المواد الفنية بالمنظومة التعليمية، ولا يستندون في رأيهم على أية مرجعية معرفية، وأن المنطق والاختيار البيداغوجي الذي يتبناه التنظيم الرسمي للدراسة، هو الذي يكرس هذا الواقع المختل ويعزز هذه الأحكام غير العلمية، من خلال عدد المعاملات وساعات التدريس ونظام التقويم. إنه واقع ينبغي أن يصحح. لهذا، لا بد من تشغيل دماغ الطفل بكامل طاقته وإمكاناته الفعلية، وفي غياب هذا التشغيل المتوزان، فإننا نفوت عليه فرص النمو الذهني الطبيعي، الذي لا يتم من خلال تعليم كلاسيكي أو وضعيات ومضامين مدرسية أو مهارات تقتصر على النطق والكتابة والحساب. إننا بهذا الصنف من التعليم، نبني إعاقات ذهنية لدى الأطفال، بل الأمر أخطر من هذا، فبتعطيلنا لجزء هام من قدرات البنية الدماغية للطفل، التي يفترض تنميتها وتأطيرها بالمعارف والقيم والمهارات اللازمة، نحن نتركها للمجهول، فالإبقاء عليها في حالة الجمود، يحتمل في أفضل الأحوال عدم قدرة الطفل على مسايرة وإدراك جوانب هامة من الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والتكنولوجية، والإحساس بعدم القدرة على التفاعل الإيجابي مع متغيراتها. كما يحتمل في أسوأ الحالات، استعمالا سيئا لهذه المساحة الذهنية المعطلة في مراحل لاحقة، فحالتها الخام، قد تجعلها في أية لحظة عرضة للاستغلال السلبي، من جهات تسعى لاقتحام وجدان وخيال اليافعين وشحنه بثقافة الحقد والكراهية والتنميط والتطرف. إنه بقدر اتسام البنية الدماغية بالوحدة والنسقية، وبقدر استعمالنا وتطويرنا المتوازن لطاقتها الذهنية، وخلق الشروط والظروف والسياقات و الوضعيات التي تخدم هذا الاستعمال الصحيح، فهذا يسمح ببروز التعدد والاختلاف بين الأفراد. لأننا مختلفون عن بعضنا البعض، فكل كائن بشري قادر على تطوير ذكائه بشكل مختلف عن الآخر وبدرجات متفاوتة، فليس هناك ذكاء وحيد، بل ذكاءات متعددة GARDNER (1984) ، لهذا يجب أن نسعى ونحقق انبثاق هذه الخاصية البشرية التي تميزنا عن باقي الكائنات، والعمل على رعايتها، ولعل العامل الوحيد الذي يمكن أن يعطل هذا التنوع، هو الإعاقة العضوية التي تتجلى من خلالها الملكة الذهنية. لذلك ينبغي أن يكون لنا استعداد لقبول الآخر المختلف عنا، ونمنحه حقه في الوجود، والاستفادة منه، لأنه مصدر غنى وتطور للمجتمع. المجال الفني، حقل واعد بالمهن تدريس الفنون بالمدرسة هو استثمار في مجال تعليمي وتكويني يفتح آفاق شغل واعدة و تخصصات مهنية جديدة، المغرب في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن. فالانفتاح على المهن الجديدة والمعاصرة التي أضحت تشكل أقطابا اقتصادية قوية بالدول المتقدمة، يمر عبر تدريس الفنون، والتي في غالب الأحيان يضطر المغرب للاستعانة وجلب المتخصصين في هذه المهن من الخارج، كالتصميم المعماري وتصميم المحيط، التصميم الإشهاري، التصميم الصناعي، الأنفوغرافيا، التصوير الفوتوغرافي، فنون الطباعة، تصميم الديكور، مهن السمعي البصري والفنون البصرية والوسائطية، المهن السينمائية، المهن الموسيقية، هندسة الصوت، صناعة الأشرطة المرسومة، التدبير والتنشيط الفني والثقافي... واللائحة طويلة جدا. هذا الانفتاح على هذه المهن هو مطلب ملح في الوقت الراهن، ولا يقبل التأجيل أو التردد. وهو السبيل للخروج من بوتقة تعليم محصور في التخصصات الكلاسيكية و المهارات والخبرات المعرفية والمهن المرتبطة بها، التي تدحرجت قيمتها في سوق الشغل، نظرا لتزايد عددها فوق الطلب. فالتعليم في زمن العولمة تطور وانفتح على خبرات وذكاءات إنسانية جديدة، ولا يمكن للمغرب أن يبقى حبيس العرض التعليمي ” المحكوم بتعلم "اللغة والحساب”، كما أن حصر التعلم ضمن خانة التحكم في هذه المجالات المعرفية فقط، لم يعد كافيا لإقدار خريج المدرسة على الاندماج في حياة القرن الحادي والعشرين، والانفتاح على العالم والاستجابة لمتطلباته، بل حتى النجاح والتميز في باقي المهن. التربية الفنية أمل جديد للمدرسة المغربية في ظل الأزمات التي تتناوب على المدرسة المغربية أزمة تلو الأخرى، حيث يحضر فيها بشكل متكرر الهدر المدرسي، تبخيس دور المدرسة، ضعف تفاعل المتعلمين مع المناهج والمقررات الدراسية، تفاقم ظاهرة العنف، ضعف مسايرة الحياة المدرسية لاهتمامات وانتظارات الأطفال والمتمدرسين، عسكرة المعرفة المدرسية من خلال فرض مجالات تعلمية بعينها وإقصاء مجالات أخرى، واعتماد نظام تقويم لا يلامس مختلف قدرات وإمكانات المتعلمين الذهنية، وغير منفتح على خبراتهم ومهاراتهم الإبداعية والتخيلية، توتر العلاقات البيداغوجية داخل المدرسة بسبب الاستمرار في اعتماد التراتبية بين التخصصات والمجالات التعلمية، ضعف الانخراط الفعلي للمتعلمين في المشاريع التربوية للمدرسة، طغيان الخطاب النفعي داخل المدرسة، الذي يصنف المواد الدراسية وفق المنطق السائد لسوق الشغل، وليس وفق ممكنات التطور والتميز الفردي وحرية الاختيار، والقدرة على المبادرة والابتكار، وقيم العمل والاجتهاد. كل هذه الظواهر والممارسات تدعونا لاعتبار تعميم تدريس المواد الفنية أمل جديد للمدرسة المغربية. وهناك ثلاث أسئلة تبرر هذا الطرح. أولا، هل نريد اقتصادا قويا وحيا، ولنا استعداد للاستثمار من أجل ذلك؟ بمعنى إعداد مجتمع مبتكر ومبدع، أي تغليب ممارسة متوازنة للقدرات الذهنية وللخيال بالمدرسة، لأن التنميط والتشابه أصبح يضع هذه الأخيرة في خطر حقيقي، التربية الفنية والجمالية بالمدرسة والممارسات الإبداعية عموما، والتربية بالإبداع، كل ذلك يمكن أن يقدم علاجات لهذه الأعطاب والمخاطر التي تعيشها المدرسة المغربية راهنا. ثانيا، هل نريد مجتمعا مثقفا ومنفتحا على العالم ومتواصلا معه بمختلف خطاباته المعاصرة، ومتشبعا بثقافته المحلية وعارفا بموروثه الحضاري؟ بمعنى، إعداد مجتمع بأفراد متزنين، قادرين على الانفلات من التعصب والعدوانية والعنف، وقادرين على التحكم في رغباتهم على اختلاف أصولها، وإعمال تفكيرهم وقدرتهم على النقد والتحليل، وتدبير حاجياتهم الخاصة باستقلالية. الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح والسينما... بالمدرسة يمكن أن تكون المحرك الأساس لهذا التوازن والاستقرار النفسي والفكري. ثالثا، هل نريد مجتمعا قادرا على مواجهة مستقبل مفتوح على ثقافة الإفراط في الاستهلاك بدل الإنتاج، والانغماس في المتع المادية والاستسلام لمغرياتها الوهمية والانحراف السلوكي؟ معنى ذلك، الاستثمار في كيفية تدبير مستجدات الحياة المادية وتأمين الذات في مواجهة سلطة وجبروت المادية المعاصرة، وبالتالي تأمين مستقبل المجتمع. الفنون والتربية الجمالية بالمدرسة قادرة على المساهمة في ذلك، لأنها قادرة على التربية على المبادرة ومحاربة العطالة الذهنية و"اللاإنتاج". . باحث في الثقافة الجمالية والتعليم الفني