تعتبر عمارة المدينة العتيقة بمراكش من أروع الآثار الإسلامية حتى اليوم، بما حوته من بدائع الصنع والفن والقصور والرياضات والدور، والتي زينها صناع مهرة بأبدع النماذج، وهندستها تعكس كل ما يرتبط بعقيدة المسلمين زمن تطورهم وبلوغ سلطانهم بلاد السنغال. هذا الرأسمال الثقافي جعل من المدينة القديمة "سر وجوهر" حاضرة سبعة رجال، ومكن المغرب من أن يذكر مع أعرق الحضارات، كالصين والهند واليابان، لحظة تسجيلها مرتين في ديوان اليونسكو كتراث عالمي سنة 1985، وشفوي غير مادي سنة 2001. الصناعة الثقافية الخلاقة جعفر الكنسوسي، رئيس جمعية منية مراكش لإحياء وصيانة تراث المغرب، والمولع بشغف المدينة العتيقة، أوضح لهسبريس أن "المنطقة رغم جذورها التاريخية طالها التبخيس من أهلها حين خرجوا منها جماعات بداية الستينيات والسبعينيات، إلى مناطق سكنية كالمحاميد"، مضيفا أن "هذا المجال في حاجة إلى دراسة تاريخه الاجتماعي". "القصور العتيقة كقصر البديع والباهية ودار الباشا والعيادي والمنبهي، ودار سي سعيد والكريسي ورياض علي بن يوسف، تتحدث عن أوج حضاري في العمران الإسلامي، كانت فيه مدينة مراكش عاصمة"، يؤكد الكنسوسي، الذي يدعو إلى استثمار هذا الرأسمال التراثي حتى ينطق ماضيه في حاضرنا، بجعل كل ركن من هذه القصور ينطق تاريخا. "نحتاج إلى صناعات ثقافية خلاقة تضفي الحياة على هذا الرأسمال الثقافي، فإذا دخلت قصر الباهية يجب أن تشعر باللحظة التاريخية ومميزات زمن الإصلاح؛ بمعنى أن يتحدث المكان عن نفسه، بإحياء طقس المأدبة المعرفية، الذي كان ينظم من طرف الوزير أحمد بنموسى الشرقي البخاري، المعروف بباحماد (1840م-ماي1900م)، ويضم ثلة من الأدباء والمفكرين والشعراء والكتاب"، يقترح عاشق المدينة القديمة. وزاد الكنسوسي: "تراثنا في حاجة إلى مقاربة ثقافية واقتصادية"، مقترحا أن يتم تنظيم كارنفالات الملاحم التاريخية، كمعركة واد المخازن، "لربط الماضي بالحاضر وجعل كل ثنايا هذا التراث تنطقا بما كانت تضمه، ولاستحضار سمة الزمن السعدي، الذي عرف بالثورة الثقافية، مع أحمد السعدي، وإنتاج منتوجات صناعية تحمل رموز التراث اللامادي"، وفق تعبيره. الترميم إشكال "هذا التحدي يطرح إشكال الحرص على عملية ترميم الرأسمال الثقافي اللامادي، الذي أصبح جزء منه يقتنى من طرف الخواص عربا وعجما، منهم من يحترم الخصائص التراثية، ومنهم من يخربه"، ينبه الفاعل الجمعوي ذاته، مشيرا إلى أن مجموعة من عشاق المدينة القديمة دخلوا غمار العناية بالمباني التاريخية الخاصة، فرمموا دار المصلوحيين التي بناها أحمد السعدي، كما تحولت دار العيادي "بالبويبة" إلى معلمة سياحية حافظت على عبق تاريخها. إذا كانت العناية بهذا الإرث الإنساني الذي تزخر به المدينة العتيقة تحتاج إلى توحيد التصور بين كافة المتدخلين، فإن ترميم هذه المعالم طرح خلافا كبيرا بين من عاش داخل أو قرب هذه القصور والرياضات ودروب وأزقة المواسين وبنصالح وسيدي إسحاق والقسادرية والرميلة ودرب دابشي وجنان بنشكرة، وهو ما تجلى بشكل جلي في عملية ترميم قصر الباهية منذ سنة 2000. قصر الباهية.. ترميم أم تخريب؟ عبد العزيز محراش، واحد من سكان جنان بنشكرة، وصف ما عرفه قصر الباهية منذ سنة 2000 ب"تخريب هذه المعلمة وتزييف معالمها"، بفعل بعض الترميمات التي تشهدها من حين لآخر من طرف المحافظ الجهوي للتراث الثقافي.. "عوض ترميمها حسب القواعد المعمول بها علميا وتقنيا، تتم إزالة ما هو أصلي لأسباب نجهلها"، تقول رسالة موجهة إلى الديوان الملكي تتوفر عليها هسبريس. "مجموعة من الفضاءات المكونة لقصر الباهية التاريخي أصبحت مشوهة، بل انتزعت من أجزاء بنيت معها منذ إحداثها"، يضيف محراش، مستدلا على قوله بإزالة الرخام الأصلي من الساحة الكبرى المسماة بالبساط،، ومن دار العيال، وتعويضه بآخر لا قيمة له، ومشير إلى أن "القرميد هو الآخر والأعمدة والأقواس والأسقف أزيل عود الأرز بها، وكل الزخارف، إضافة إلى الزليج الفسيفسائي"، وفق تعبيره. وتابع من يصف نفسه بعاشق قصر الباهية، الذي خبر كل ركن منه، لكونه ترعرع بين جنباته، بأن "القبة الكبيرة المحاذية للحديقة الأندلسية مهددة بالسقوط، بفعل الإصلاحات الأخيرة التي لم تراع القوانين الجاري بها العمل في مجال حماية وصيانة التراث المادي". المحافظ والمدير يوضحان "أي قيمة علمية يملكها عزيز محراش ليدلي بدلوه في ما لا علم له به؟"، يرد المدير الجهوي لوزارة الثقافة بمراكش عز الدين كارا، الذي أكد لهسبريس أن للمعني وباقي المحتجين مشكلا مع الإدارة المذكورة، "باعتبارهم محتلين لملك عمومي لسنوات"، وزاد: "نطالبهم بالإفراغ، وهو ما يفسر ما يقومون به من تحركات.. إضافة إلى أننا منعناهم من مضايقة السياح، كمرشدين غير قانونيين". وفي السياق ذاته، أوضح جمال أبو الهدى عبد المنعم، المحافظ الجهوي للتراث الثقافي، أن عملية الترميم عمرت سنتين وتمت وفق الضوابط القانونية والإدارية المعمول بها من طرف وزارة الثقافة كما ينص على ذلك نظام الصفقات العمومية، وأشرفت عليها وزارة المالية طبقا لما هو معمول به في هذا المجال، مضيفا: "أشرف عليها مهندس متخصص باعتباره كان مفتشا سابقا، وسهرت عليها لجنة تتكون من مفتش المباني التاريخية ومحافظ معلمة الباهية وآخرين". "إن المقاولة التي أشرفت على العملية لها تجربة طويلة، وهي نفسها التي قامت بترميم مسجد تارودانت الذي شب فيه حريق أخيرا، وأشرفت على ترميم مسجد بريمة وباب دكالة بمدينة مراكش، ومعالم تاريخية بتطوان والمحمدية"، يقول عبد المنعم، موردا أن الترميم كان مضبوطا ومستحضرا لمكونات ما تم ترميمه، ونافيا استعمال مواد كيماوية في ذلك، ومتهما المحتجين بعرقلة إصلاح معلمة الباهية.. "بعضهم يتكلمون باسم الملك، وكأنهم أحرص من الدولة على تراثها الثقافي"، يقول المحافظ ذاته.