آلت الانتخابات الرئاسية، في دورها الأول، إلى ما استبقته استطلاعات الرأي بتأهل كل من إمانويل ماكرون، عن حركة En Marche، ومارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية، إلى الدور النهائي المزمع تنظيمه في السابع من ماي 2017. ذكّرت النتيجة المتتبعين بزلزال 2002، حين وصل الأب لوبان إلى النهائي بمعية جاك شيراك. آنذاك، لم يكن من خيار مطروح سوى قطع الطريق على الجبهة الوطنية وتمكين اليمين من المرور إلى الإليزيه، بنسبة تعدت 80 في المائة وبإجماع قل نظيره في تاريخ الجمهورية الخامسة. اليوم، تختلف التقديرات؛ لأن لا شيء حسم قبل الأسبوع الأول من ماي المقبل، ولأن فارق النقطتين بين المتنافسين لا يشي بتقدم ملحوظ يسمح بالتحليل والتوقع بالإسقاط على غرار استحقاق 2002. اليمين (الجمهوريون) لا يتمنى مارين لوبان رئيسة للبلاد؛ ولكنه ليس مجمعا على مرشح En Marche، إذ ظهرت الانقسامات في صفوفه ولم يفض اجتماع مكتبه السياسي الصاخب إلا إلى توجيه مبهم لا يقول بصريح العبارة بوجوب التصويت لماكرون وفي الوقت نفسه يؤكد على ضرورة عرقلة مرشحة الجبهة الوطنية. وهنا، لا يجب الاطمئنان إلى تصريحات القادة (جوبي ورافاران مثلا) لأن المناضلين في حزب (الجمهوريين) لا يحبون التعليمات كما أكد ذلك فوكييز. تقريبا، وعلى نهج الجمهوريين، سارت الأحزاب الصغرى التي بدت مواقفها متذبذبة فيما بين الدورين، مواقف تتأرجح بين تأييد محتشم وخجول لماكرون وقطع الطريق أمام لوبان التي تحالفت مع نيكولا ديبونتانيان، المرشح القومي اليميني الحاصل على نسبة 4.7 % من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا. لكن صاحب "التشويق" في كل هذا المسلسل يبقى هو جان لوك ميلانشون، زعيم la France insoumise، الذي قاد حملة نظيفة بوأته المرتبة الرابعة بأزيد بقليل من 19 في المائة. زعيم الحزب اليساري انتظر طويلا ليلة 23 أبريل، قبل أن يقبل بالهزيمة ويقر بها معتزا في الوقت نفسه بكتلة ناخبة مهمة وبدينامية انتخابية ميزته عن غيره وأعطت لليسار نفسا جديدا على أنقاض الحزب الاشتراكي المنتهية ولايته. ميلانشون دخل في صمت لا تنتهكه إلا الدعوات التي تستعجله بالوضوح وتدعوه إلى تبني موقف 2002 (Ségolène Royal): تارة يقول إنه يستحكم 450000 مناضل وقعوا على ميثاق داعم لحملته، وتارة أخرى يفهم منه أنه مهتم أكثر بمعركة الانتخابات التشريعية المقبلة. يرى المحللون أن الزعيم ينتمي إلى طينة "الخاسر السيء" (le mauvais perdant) ، الذي لم يتجرع بعد مرارة الهزيمة، وكان يرى نفسه أقرب من دخول الإليزيه وطرد عدوه اللدود فرانسوا هولاند. كما يرى المحللون أيضا أنه لا يرى فرقا بين لوبان وبين ماكرون، وقد تكون دعوته المبطنة هي المقاطعة؛ ولو على ظهر مواقف "نبيلة" خاض من أجلها حملته، وحتى إن كان الثمن هو انتصار الجبهة الوطنية. تتعزز رؤية ميلونشون بحركات احتجاجية قد تتوسع حدتها، ومفادها أن لا صوت للمرشحين المتنافسين معا. ومن شأن هذه الاحتجاجات أن "تفسد" طعم الحملة في أسبوعها الأخير، وترفع من نسبة الناقمين والمصدومي. ومن ثم، تتيح الفرصة، في نهاية المطاف، لمرشحة اليمين المتطرف مع ما يعنيه ذلك من انقسام المجتمع الفرنسي وانفتاح على المجهول. يؤكد أحد الفلاسفة (ميشيل أنفري) هذا الطرح من خلال إصداره الأخير والذي يدعو فيه إلى نمط جديد من التدبير السياسي عوض نظام تقليدي لا يحمل في نهاية التحليل إلا المرشح الذي تبتغيه المنظومة، سواء كان منتميا إلى اليمين أو اليسار (حالتا PS وLR)، مرشح لا يحمل مشروعا تفرزه الآليات الحزبية وفق الأعراف الديمقراطية؛ بل مرشح مراكز القرار المالية والاقتصادية والسياسية، مرشح تتوجه قاعات وصالونات الإعلام قبل أن تعلن عن فوزه صناديق الاقتراع، مرشح العولمة، مرشح "أوربا الموحدة". وعليه، فإن الضبابية هي السمة الغالبة على انتخابات الدور الثاني. ومهما كان الفائز، فإن صفحة جديدة ستكتب في تاريخ فرنسا؛ لأن تشكيلة البرلمان ستفصح عن ألوان أخرى وعن تحالفات من نوع جديد ومرحلة غير مسبوقة عنوانها الانقسام الواضح في المجتمع الفرنسي والذي بدأت بعض تجلياته تظهر في الأيام الأولى لحملة شرسة تحاول فيها مارين لوبان تقديم صورة soft عنها وعن حزبها قصد كسب أصوات ناقمة، ويحاول فيها ماكرون تأكيد صورة "لا يمين ولا يسار" قصد اقتحام بعض المعاقل الممانعة والظفر بالصف الأول. سباق غير مضمون والأيام القليلة المقبلة حبلى بالمفاجآت مما لا شك فيه.