تحقّق الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في ملف أحد أكبر الأسواق النموذجية بالدارالبيضاء، الموجود بمقاطعة سيدي مومن، بسبب اختلالات مالية وقانونية وعقارية وتقنية، جعلت العشرات من الباعة المتجولين يخرجون في احتجاجات أسبوعية للمطالبة بإدماجهم بغية الاستفادة من محلات تجارية على غرار باقي المستفيدين. فما قصة هذا السوق، الذي شيد في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟ ولماذا ترفض وزارة الداخلية، ممثلة في عمالة مقاطعات سيدي البرنوصي، فتحه؟ ولماذا لزمت جمعية "المصير للتنمية الاجتماعية" الصمت حيال اتهامات المقصيين والحقوقيين والسلطة لها؟ ولماذا لم تتحرك السلطات حين بناء السوق؟ وما مصير الباعة الذين دفعوا ما جنوه من عرق جبينهم لتحقيق حلم الحصول على محل تجاري؟ احتلال أرض الدولة سنة 2007، بدأت منطقة سيدي مومن بالدارالبيضاء تشهد دينامية متسارعة بعد التهميش الذي عاشته لسنوات، إذ كانت تعاني مختلف الفئات الاجتماعية خصوصا الشباب من ويلات البطالة؛ وهو الحال الذي دفع العديد منهم إلى اللجوء إلى "الفراشة" كحل بديل. في هذه الفترة، بدأت جمعية المصير للتنمية الاجتماعية العمل على إخراج سوق نموذجي يروم احتواء الباعة المتجولين الذين أضحوا يسيطرون على طول شارع الحسين السوسي وباعة السوق العشوائي "خناتة" وسوق "كاريان الرحامنة" خلف إقامة اليقين. حتى حدود الآن، بدت الأمور عادية. أحمد بريجة، رئيس مقاطعة سيدي مومن، المنتمي لحزب الأصالة والمعاصرة، عمل حينها، حسب الوثائق التي اطلعت عليها هسبريس، على الاستجابة لطلب الجمعية المتمثل في طلب استغلال بقعة أرضية ذات الرسم العقاري"13064 س"، وتبلغ مساحتها حوالي 4000 متر مربع، من أجل إنجاز سوق نموذجي لفائدة الباعة المتجولين في إطار خلق أنشطة مدرة للدخل المنصوص عليها في محاور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. دخلت السلطات، في عهد عامل سيدي البرنوصي السابق،على الخط، مرحبة بفكرة المشروع، لتراسل في أبريل 2009 المديرية الجهوية للأملاك المخزنية في موضوع اقتناء قطعة أرضية في ملك الدولة لفائدة جمعية المصير للتنمية الاجتماعية. لم تتأخر إدارة أملاك الدولة في الرد على عامل البرنوصي حينها؛ لكن الجواب جاء مخالفا لتوقعات الجمعية الراغبة في الحصول على البقعة الأرضية المذكورة، حيث أوضحت الإدارة، حسب الوثائق التي تتوفر عليها الجريدة، أن "القطعة المطلوبة مدرجة ضمن العقارات المزمع تفويتها لفائدة شركة العمران الدارالبيضاء في إطار مشروع إعادة إسكان دوار سيدي مومن، وبالتالي فهي غير شاغرة مما يتعذر عليه تلبية طلب الجمعية المذكورة". المثير في الأمر هو أن الجمعية المذكورة وضعت مراسلة إدارة أملاك الدولة جانبا، وشرعت في بناء السوق، إلى أن أصبح ارتفاع بنايته يفوق تصميم التهيئة بالمنطقة التي يتواجد بها في سيدي مومن في تلك الفترة التي شيد بها، إذ لم يكن يتجاوز حينها الطابقين! السوق وأموال المبادرة بالعودة إلى بداية المشروع، الذي كان الهدف منه خلق أنشطة مدرة للدخل المنصوص عليها في محاور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، يتبين أن بعض المسؤولين بالجمعية "التفوا" على "المبادرة"، وشرعوا في الاستفادة من عائدات المحلات التي يتم التنازل عنها، إذ يتم إعادة بيعها بأثمنة باهظة؛ وهو ما جعل الشبهات تحوم حول أعضائها. مشروع سوق المصير، الذي أبرمت بخصوصه الجمعية شراكة مع مقاطعة سيدي مومن واللجنة الإقليمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية في شخص عامل البرنوصي، زاغ عن طريقه وخرج عن أهداف المبادرة التي أطلقها الملك محمد السادس، كما يؤكد ذلك عدد من النشطاء والجمعويين. وحسب الاتفاقية الموقعة بين الأطراف الثلاثة، فقد تقرر استفادة الجمعية في إطار برنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضري لسنة 2007، من دعم مالي لإنجاز مشروع سوق نموذجي بدواري طوما والرحامنة بسيدي مومن، حيث تسهم عمالة البرنوصي بمبلغ مالي يناهز 400 ألف درهم، بينما تتكلف الجمعية بالتنفيذ والإشراف والتتبع؛ غير أن الجمعية، ومن خلال تصريحات رئيسها، أدرجت شقا أطلقت عليه "الشق الاقتصادي"، والذي لا يوجد ضمن أهداف المبادرة الوطنية ولا ضمن بنود الاتفاقية المتوفرة لدى الجريدة، ما جعل العديد من الشباب الذين لم يستفيدوا من السوق يتهمون الجمعية ورئيسها ب"تسخير عائدات وواجبات الاستفادة لخلق مشاريع شخصية وإنماء ثرواتهم بدل تحقيق المنفعة العامة ذات الصلة بتمكين ذوي الاحتياجات الاجتماعية من حقوقهم المشروعة وتفعيل البرامج الموضوعة من أجل إعادة إدماجهم، مما أفرغ فلسفة المبادرة الوطنية من محتوياتها"، يقول العلوي البلغيثي، منسق الباعة المقصيين في تصريح للجريدة. اتهام بالاغتناء على حساب "الفراشة" ما يثير الاستغراب في هذا السوق النموذجي هو أن مبالغ مالية كبيرة ضخت فيه تفوق بكثير المبلغ الذي منحته السلطات في إطار المبادرة؛ وهو الأمر الذي يستدعي، حسب نشطاء بالمنطقة، فتح تحقيق من لدن المجلس الأعلى للحسابات، خاصة أن السلطات لا تتوفر على أية معلومة بخصوص كيفية صرف الميزانية أو بلوائح المستفيدين من السوق! حقوقيون منضوون تحت لواء المنتدى الديمقراطي المغربي للحق والإنصاف تحدثوا، في بيان لهم تتوفر الجريدة على نسخة منه، عن "وجود تلاعبات على مستوى تدبير الاستفادة من المحلات التجارية، حيث رصدنا استفادة أناس لا تتوفر فيهم الشروط الموضوعية، في انتهاك سافر لأهداف وفلسفة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فغابت عن هذا المشروع التجاري المقاربة التشاركية والاجتماعية، ولم يعرف إدماج جميع الباعة الجائلين أبناء المنطقة، كما لم تعط فيه الأولوية لذوي الاحتياجات الخاصة والمعطلين؛ اللهم بعض المقربين الموالين لرئيس الجمعية والمنتفعين معه، وما أثار حفيظة الفئة المقصية من المشروع هو استفادة بعض الجمعيات الريعية وبعض الموظفين التابعين للعمالة والمقاطعة والأمن وكذا بعض المستشارين والمنتخبين". وأضاف المصدر نفسه أن "تجار الذهب استفادوا بأكثر من 3 محلات، كما قامت الجمعية الساهرة عليه بالتلاعب في التنازلات، فتم تسلم التنازل الواحد عن المحل بمبلغ 25 ألف درهم وتفويته إلى جهات أخرى بحوالي 40 مليونا، في خرق للمقتضيات القانونية، ناهيك عن شطر المحل التجاري لقسمين حتى يتم التغلب عن العجز الحاصل". وتقول مصادر الجريدة إن السوق يضم "فندقا" بطابقين ومقهى وقاعة للأفراح، فاقت الأثمنة التي تم تفويتها بها إلى بعض الأشخاص الميسورين بأزيد من 400 مليون سنتيم!، مضيفة أن طريقة تفويت هذه المحلات لم تتم بشكل قانوني، أي عن طريق موثق؛ وهو ما يحرم خزينة الدولة من مبالغ ضخمة. الجمعية تنفي أكد بوشعيب لمهامكة، رئيس جمعية المصير للتنمية الاجتماعية، أن عدد المستفيدين من المحلات التجارية بسوق المصير يصل إلى حوالي 580 بائعا من مختلف المهن والحرف، موضحا في تصريح لهسبريس، أن المحلات توزعت بين ما هو اجتماعي تصل إلى 420 شخصا، بينما يستفيد 160 شخصا في شق يطلق عليه "الشق الاقتصادي" والذي يستفيد منه باعة المجوهرات وغيرهم. وإذا كان رئيس الجمعية قد أكد، في تصريح للجريدة، أن المحلات المحسوبة على "الشق الاقتصادي" قد تم بيعها بمبالغ مالية توزعت بين 4 ملايين و25 مليون سنتيم تقريبا، فإن حقوقيين تحدثوا عن تفويت محلات تم التنازل عنها إلى جهات أخرى بحوالي 40 مليون سنتيم وأكثر بحسب المساحة المخصصة لها. رئيس الجمعية ، وهو يرد، في حديثه للجريدة، على الاتهامات الموجهة إليه لفت إلى أن تصميم التهيئة في المنطقة التي يوجد بها السوق النموذجي يسمح ببناء الطابق الرابع؛ غير أن مصادر الجريدة ذهبت إلى أن الفترة التي شيّد بها السوق كان هذا التصميم حينها لا يسمح بتجاوز طابقين ! ورمى بوشعيب لمهامكة، رئيس الجمعية، الكرة بمرمى رئيس المقاطعة السابق، معتبرا أنه منح الجمعية وثيقة تشير إلى أن مصالح المقاطعة تتخلى عن قرار التوقيف الذي سبق أن طالبت به؛ ما يعني، حسبه، أنها توافق على استمرار الأشغال بالسوق، لكن مصالح عمالة البرنوصي باعتبارها السلطة الوصية، تشير مصادرنا، قامت بإلغاء القرار الصادر عن المقاطعة. وما يعزز رواية رئيس الجمعية، حسب الوثائق التي يتوفر عليها، كون رئيس المقاطعة راسل إدارة شركة "ليديك" ليعلن موافقته لها بتزويد السوق بالكهرباء؛ غير أن مصدرا من المقاطعة لفت إلى أن سلطات الوصاية تدخلت لوقف ذلك، على اعتبار أن الأمر تزامن مع الحملة الانتخابية لسنة 2015. المقاول: تم النصب عليَّ أزمة الجمعية، خاصة رئيسها، ستزداد سوءا، لا سيما مع توجيه اتهامات من لدن عبد الله السعدوني، صاحب المقاولة التي أشرفت على البناء؛ فهذا الأخير يؤكد أن الجمعية ما زال في ذمتها ما يناهز 800 مليون سنتيم، مطالبا بإرجاعها إليه. واتهم صاحب الشركة سالفة الذكر، في اتصال هاتفي بجريدة هسبريس، الجمعية ورئيسها بالنصب عليه، من خلال جعله ينفق أمواله في تشييد السوق دون تعويضه، مضيفا أن له أدلة تثبت صحة كل اتهاماته للجمعية، مشددا على ضرورة التعجيل بالتحقيق في الأمر. وفيما ينفي رئيس الجمعية هذه الاتهامات، يبرز المقاول أنه سيتم إجراء مواجهة بين الطرفين بمقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية من أجل مقارنة الفواتير التي يعتبرها مزورة. واتهم المتحدث نفسه الجمعية باستبدال شركته بشركة شخص آخر على صلة بالرئيس، مضيفا: "منحت للشركة الأخرى أموالا من أجل استكمال المشروع، واستولوا في المقابل على تجهيزاتي وآليات العمل التي تفوق قيمتها 400 مليون سنتيم!" ووجه المقاول رسالة في شهر مارس الماضي إلى سلطات البرنوصي، يعلن فيها أنه فوجئ من لدن الجمعية برغبتها في تغيير الطابق الخامس من نشاطه الأصلي وإرجاعه إلى قاعة للأفراح؛ وهو "ما يخالف الأشغال التي عهدت إلينا ويخالف أيضا تصميم الخرسنة المخصصة لفندق"، يردف موضحا. أين السلطة؟ أزمة السوق النموذجي "المصير" بدأت تكشف المستور منذ رفض عمالة مقاطعات سيدي البرنوصي افتتاحه في فاتح مارس من السنة الجارية، وذلك بسبب ما أسمته السلطة "عدم التوفر على التراخيص القانونية على مستوى البناء". فأين كانت السلطة حينها وتركت الجمعية تستمر في ارتكاب خروقات تقنية بالمشروع، لا سيما أن السوق النموذجي لا يتوفر على تصميم مصادق عليه من لدن الوكالة الحضرية؟ مصدر، رفض ذكر اسمه، أوضح لهسبريس أن السلطات راسلت رئيس الجمعية تخبره بضرورة وقف أشغال البناء، لكونه يفتقد التراخيص القانونية لذلك، متابعا: "بعد ذلك، جرى رفع دعوى قضائية ضد الجمعية من لدن مجلس مقاطعة سيدي مومن، حيث قضت المحكمة سنة 2013 بالهدم وغرامة مالية قدرها 40 ألف درهم"؛ لكن الجمعية ظلت تواصل الأشغال في السوق، حاصلة سنة 2014، على حكم استئنافي يقضي بعدم متابعة رئيسها. هذا الأمر جعل السلطات، حسب مصدرنا، "تلتزم بالحكم القضائي"؛ لكنها في المقابل تصر على تنفيذ القوانين الجاري بها العمل، والمتمثلة في ضرورة توفر أصحاب المشروع على شهادة المطابقة ورخصة السكن من أجل السماح لها بفتح السوق. المصدر نفسه أشار إلى أن المصادقة على قانون التعمير الجديد في أواخر سنة 2016 فتح بابا جديدا، ودفع السلطة إلى وضع شكاية جديدة لدى وكيل الملك بابتدائية عين السبع. INDH تتخلى عن المشروع أمام هذه الزوبعة، والاتهامات الموجهة من أطراف عدة إلى الجمعية المشرفة على المشروع، وجد المسؤول الإقليمي على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نفسه مضطرا إلى إلغاء الاتفاقية المبرمة مع جمعية "المصير للتنمية الاجتماعية". وبالرغم من مراسلات رئيس الجمعية سالفة الذكر لمسؤولي وزارة الداخلية يطالب فيها بفتح تحقيق في قضية استمرار إغلاق السوق، فإن مسؤولي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بعمالة البرنوصي عملوا على إلغاء الاتفاقية التي كانت مبرمة بين الطرفين، ليصير المشروع ممنوعا من استغلال اسم الورش الملكي. إلى ذلك، أوضح مصدر للجريدة أن عمالة البرنوصي تفكر في إدماج الباعة المستفيدين من السوق المغلق في مشاريع اجتماعية أخرى؛ وذلك بعدما ينظر القضاء في الملف الموضوع على طاولته، بالرغم من كون العمالة لا تتحمل المسؤولية القانونية اتجاه الضحايا المفترضين.