تلعب وسائط الإعلام، والتلفزيون على وجه الخصوص، دورا حاسما في ترجيح كفة هذا المرشح أو ذاك، وجعله يسجل نقطا في معترك تحتسب فيه كل الضربات ولو كانت تحت الحزام. ولقد فهم المتسابقون إلى قصر الإليزيه مبكرا خدمات التلفزيون، وعملوا على التقرب من أرباب القنواتن والتودد للصحافيين لتسجيل حضور قوي واحتلال حيز أوفر على الشاشات. مبكرا، وبمناسبة الحملات الانتخابية، تستعر الحمى ويتهافت المترشحون على القنوات لتسويق صور إيجابية عن أنفسهم، وتدبيج خطب يفكرون فيها مليا، ويساعدهم في ذلك مستشارون في التواصل يعملون على انتقاء جمل بمواصفات دقيقة ليكون لها الوقع المرتقب. جمل، وعلى طول الانتخابات الماضية، نقشت بصماتها في تاريخ المشهد السياسي الفرنسي؛ لأنها رفعت البعض إلى أعالي السماوات وأسقطت البعض في حضيض النسيان. ولقد شاهد المتتبعون في الأسبوع الماضي كيف انبرى كل من المترشحين للتصدي لخصمه وإرسال النبال الكفيلة بإلحاق أكبر الخسائر، تجلى ذلك في ثنائية إمانويل ماكرون ومارين لوبين. ورغم الانتقادات التي أصبحت توجه إلى هذا النوع من "الفرجة"، لكونه لا يسمح بالنقاش الجاد لأن الزمن المحدود لا يفي بتقديم الأجوبة والتحليلات التي ينتظرها المشاهدون، فإن فئات عريضة من الفرنسيين لا يزالون مهووسين بهذه البرامج التي تخصص لها قنوات كثيرة حيزا مهما من غلافها الزمني. ويسجل التاريخ لحظات لا تنسى عرفت نقاشا ساخنا تخللته جمل وعبارات مميتة لا يزال الجيل الحالي كما الأجيال السابقة تحفظها عن ظهر قلب. منذ 1974، يمكن اعتبار فاليري جيسكار دستان السبّاق إلى استعمال التلفزيون كوسيلة لرسم صورة إيجابية وحداثية لمّا شاهد عامة الناس رئيسهم المرتقب يتنقل في ملاعب القرب ملامسا المرة، وعلى شواطئ البحر آخذا حماما رمليا، وفي الأسواق الشعبية متبضعا سلعا بلدية. وفي ثنائي ما بين الدورين، سيوجه إلى فرانسوا ميتران ضربات موجعة وهو يدافع عن التوجه الليبرالي لفرنسا متهما خصمه بأنه لا يفهم شيئا في التحولات الاقتصادية وفي السوق الحرة، قائلا جملته الشهيرة: Monsieur Mitterrand , vous êtes un homme du passé، التي قادته إلى الإليزيه لفترة دامت 7 سنوات. وهي المدة التي سيشتغل فيها ميتران ليرد الصاع صاعين ويلمع صورته من خلال التلفزيون والجمل الفتاكة. في الولاية الرئاسية الثانية، سيلتقي الثنائي من جديد وسيعتني مرشح الحزب الاشتراكي بطقم أسنانه كما بجمله ممتثلا لنصائح مستشاريه (جاك لانغ ودوبري)، ويطلق جملته الشهيرة التي تنتقد ما آلت إليه الأوضاع في فرنسا جراء سياسية تفقير الطبقات الهشة بفعل سياسة الانفتاح. سيقول ميتيران: Monsieur le président, vous êtes un homme du passif. وهي رد مفحم على جملة قيلت قبل 7 سنوات يتقارب فيها اللفظان passé وpassif. وخلال هذه الفترة، كان داهية آخر يتمرن على فنون التواصل في التلفزيون، ويستعد لخوض الاستحقاقات التالية مع أسد تمرس لمدة غير يسيرة على الفنون ذاتها. سيتواجه الوحشان السياسيان في مقابلة تلفزيونية وقد تعرف كلاهما على الآخر في تعايش مرير، وسيشهر المرشحان أسلحتهما لزعزعة الخصم. حاول جاك شيراك أن يستبق اللقاء بهجوم مفاجئ ليذكر الرئيس بأنه هنا (على بلاطو التلفزيون) في مقابلة بوصفه مرشح اليمين للانتخابات الرئاسية، وليس بصفة رئيس الوزراء. لكن الرئيس الاشتراكي سيرد عليه بنبرة التهكم والاستصغار: Mais oui Monsieur le premier ministre!. استكمل فرانسوا ولاية ثانية وحدث زلزال 2002 حين وصل زعيم الجبهة الوطنية ماري لوبين إلى الدور الثاني في مواجهة شيراك بعد اندحار مرشح الاشتراكيين ليونيل جوسبان. ألغيت اللقاءات الثنائية في هذا الاستحقاق؛ لأن حظوظ شيراك كانت قوية، ولأن معظم التشكيلات الحزبية صوتت لصالحه في ما يشبه إنقاذ دم الوجه. في العام 2007، سيحتل ذئب سياسي آخر مساحات أكبر في التلفزيون، وسبق له أن شارك في برنامج تلفزيوني وعمره 20 سنة. ساركوزي، عن اليمين الجمهوري، سيواجه مرشحة الحزب الاشتراكي Ségolène Royal التي فازت على منافسيها/فيلة الحزب الاشتراكي في التمهيديات. مقابلة حسمت في كل شيء تقريبا لصالح ساركوزي حين بدا متمكنا من ملفاته وواثقا من فوزه أمام رويال التي لجأت إلى استفزازه فسقطت في فخ الاستفزاز. رمت خصمها بالدوغمائية وغياب الأخلاق بسبب موقف حكومة شيراك من تمدرس الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، معتقدة أنها أمسكت بطوق النجاة ومطلقة سيلا من الانتقادات في نبرة غضب واضحة. انحنى لها الداهية وبدل أن يرد على الفكرة بالفكرة، نحا منحى آخر مركزا على غضبتها وفوران دمها، قائلا إن هذا لا يليق بمقام رئيس للجمهورية. فاستشاطت غضبا مرة ثانية، وحاولت الانتفاض لكن خصمها مر إلى شيء آخر في حين بقيت تؤكد على هدوئها. وهنا، حسم كل شيء. جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وحاز هولاند، الرئيس المنتهية ولايته، قصب السبق لتمثيل الحزب الاشتراكي في التمهيديات، لينازل ساركوزي المثقل بجراح عمقتها الأزمة المالية العالمية، وكان الرهان أن يسقط. استغل هولاند الفرصة وأعلن في خطابه الشهير ببورجي عداءه للمال عن كونه البديل الذي سيداوي جراح فرنسا ويخلصها من رئيس نزق. لم تكن العبارات القاتلة، هذه المرة، سوى الظهور بمظهر الرئيس العاديMoi , président normal، لو كنت رئيسا فلن...ولن..ولن، هكذا ردد في مقابلة الحسم في الدور الثاني وفاز بالرئاسة. الساسة الفرنسيون ألفوا اللمز والهمز في الثنائيات التي تنظم في ما بينهم: تباح فيها الضربات ولا يهم مفعولها وأسلوبها ما دامت قادرة على إزاحة الخصم من الطريق. يتذكر الجميع كيف كان يتم التلويح بالتلميح إلى علاقة ميتيران ب Anne Pingeot وابنته مازارين في أكثر من مناسبة، وكم كانت عبارة "هل يمكن أن تجيبني les yeux dans les yeux" تجعل المتتبعين على التلفزيون يتفحصون ملامح الشخص وهو يحاول جاهدا البحث عن كلمات تشفي الغليل. ويتذكر الجميع كيف ذبلت مارين لوبين حين دقق في وجهها ميلونشون وقال جملة معناها "إنك تتنفسين الحقد". ويتذكر الجميع، أخيرا، وحوشا سياسية حققت انتصارات بالضربة القاضية/الكلمة الموجعة (برنار طابي وجورج مارشي مثلا)، لكنها انهزمت أيضا بالسلاح نفسه. سنتابع لقاء الرابع من أبريل، وسنتابع لقاء ما بين الدورين، وسنكتشف المزيد من الكلمات، ولو كان ذلك على حساب البرامج، في حملة فريدة من نوعها، حملة غير مسبوقة في تاريخ الجهورية الخامسة.