كثيرا ما تفتخر المجتمعات العربية ب"الكرم" و"التسامح" و"المحافظة"، حتى صارت دعائم أساسية ترتكز عليها القيم العربية. ومن ثم، أضحت معايير للحكم على باقي المجتمعات الأخرى؛ وهو ما يدفعنا إلى عرض عدد من الأسئلة حول هذه المفاهيم، خاصة بين أفراد المهاجرين الذين لا يتوقفون عن الافتخار والتباهي بها، بحكم وجودهم في سياق مضطرب وشائك، أقصد الترديد الدائم لقيم التسامح والكرم والمحافظة. صحيح أن البيئة التي نشأنا فيها كانت تتسم بنوع من التعايش والتآخي والتعايش والتعامل المنفتح، وبلا حدود؛ لكن في الآن نفسه كنا نعيش في واقع الخصومات، والتحريض، والقبلية، بل هناك هيمنة كبيرة للعنف في الفضاءات العامة والخاصة، داخل البيت والمؤسسات، وهو عنف كبير يتوزع بين العنف المادي والرمزي والثقافي. كما أن كل ما كان يبدو جميلا في ظاهره، بدءا من اقتراض كأس زيت أو سكر في ساعة متأخرة من الليل من عند الجار وانتهاء بالصراعات العنيفة التي كانت تنتهي فصولها في المحاكم أو مخافر الأمن، لم يكن في الواقع سوى قناع لواقع وسلوك لم يكن مؤسسا على قيم الاختلاف والاحترام المؤسس على مبادئ إنسانية، ولم يكن جوابا عن سؤال أخلاقي وقيمي؛ بل إن هيمنة البعد "القبلي" داخل المجتمعات العربية تجعل من الجماعة هي الضامن الأوحد لاستقرار الفرد، ويصير هذا الأخير موجها كل طموحاته نحو تحقيق هذا الاندماج، خصوصا حين يكبر الإحساس بالتهديد الخارجي، فيصبح هذا الآخر/ الخارج هو العدو وهو الخطر والشر وتصبح العلاقة معه عدائية بالدرجة الأولى، وكل العدوانية الذاتية -حسب مصطفى حجازي- المقموعة والمتراكمة، تسقط على الخارج. ومن ثم، يتحول الخارج إلى مجرد أسطورة مخيفة، وهذا ما يؤدي إلى إعطاء القيمة للجماعة الداخلية، وهكذا تشتد الأواصر ضمن الجماعة المغلقة للحاجة الدائمة إلى تجنب قلق الانفصال، وتشتد بقدر الحاجة لإنكار الصراعات والتناقضات الداخلية، وما قد يرافقها من مشاعر العدوانية. ولهذا، فإنه يتم في الغالب إسقاط الكمال والأمن وبصورة خرافية على كل الممارسات داخل الجماعة، لتصير حبلى بالدلالات الرمزية الإنسانية التي قد تفيض بالمحبة والتآخي. والواقع أن ذلك لا يعكس سوى تضخما للنرجسية التي تتضخم معها نرجيسية الجماعة. والكرم، باعتباره إحدى القيم الكبرى التي يفتخر بها الإنسان العربي بل ويجعله معيارا للحكم على الآخر، لم يكن أبدا قيمة وإنما تقنية من التقنيات اللاواعية التي درجت المجتمعات العربية على توظيفها من أجل تمرير خيوط الإدماج والاحتواء، ومن ثم خلق جسر للتواصل، أي الاحتواء من أجل تحقيق مكاسب، إذ ما معنى استضافة شخص لمأدبة تحتوي على كمية من الطعام قد تكفي عشرين شخصا!؟ وما معنى الإلحاح، عبر التخجيل، من أجل "إشباع" الضيف؟ لقد عالجت بعض العلوم الإنسانية وظيفة الطعام والمشاركة فيه، فاعتبرته نشاطا مرتبطا بالحب، أي إنه مرتبط بالنشاط الفمي وله صلة بالرضاعة والأم. وقد عبّر مصطفى حجازي بعمق عن هذه المسألة، حين قال إن الطعام يأخذ في البلدان النامية قيمة مبالغا فيه. ويحتل الكرم مكانة مرموقة لا نظير لها في البلدان الصناعية، وهو على مستوى اللاوعي -أي الكرم- ليتخذ طابع الدفاع ضد قلق بدائي جدا يعاني منه إنسان العالم الثالث، وهو قلق الهجر والخواء. كما أن تراكم العدوانية الناتجة عن الإحباطات المزمنة تفجر العقدة نفسها، وتدفع إلى الإفراط في الطعام الذي يأخذ دلالة امتلاء الجوف بالحب؛ وهو وحده، أي هذا الامتلاء، الذي يمكنه أن يساعد على مقاومة العدوانية المتراكمة والمقموعة وتحقيق نوع من التوازن في الحياة النفسية للفرد. والطعام في النهاية وسيلة لتدعيم العلاقات "التملكية" داخل الأسرة. ومن ثم، كانت وظيفته الاحتواء داخل الجماعة. إن الواقع اليومي، داخل المجتمعات العربية، وبين المهاجرين منهم في الغرب، يعضد فرضية أن المجتمعات العربية غير منتهية، أي إنها لا تزال في طور التشكل؛ غير أن هذه التحولات التي يعرفها المجتمع العربي، أفرادا وجماعات، لم توازيها تحولات فكرية مصحوبة بأسئلة تأسيسية لإعادة تحديد المفاهيم ومن ثم السلوكات الاجتماعية، أي إننا لم نتمكن من بلورة قيمنا وأخلاقياتنا؛ وهو ما جعل سلوكاتنا منافية إلى حد لافت لما نعبر عنه. ولهذا، يستمر العمل بتقنية "الكرم"، وبصورة مثيرة تصل حد الإسراف، وهي بقدر ما تحاول أن تعبر عن التسامح والحب، فإنها تخفي أخطر الأدوات فتكا بالعلاقات مع الآخر، وتجعل من "تاريخ" لا يوجد إلا في المخيال الاجتماعي، موضع فخر. وهذا ما دفع بالبعض إلى إعادة النظر في "الكرم الحاتمي" الذي بولغ فيه، ليستنتج البعض بأن "أسطورة" حاتم الطائي لا يترجم فهما مثاليا للكرم، وإنما انعدام الكرم في المجتمع العربي القديم؛ وهو ما جعل من حالة حاتم الطائي استثناء في المجتمع العربي. في حين أن التسامح الذي يتم تداوله، خصوصا بعد ظهور الحركات اليمينية المتطرفة في الغرب، والقلق الدائم الذي يحياه المهاجر في الغرب، مثلما يحياه العربي في وطنه الأم، لا يمكنه أن يعبر عن الطموحات الحقيقية للمجتمعات المعاصرة؛ لأن التسامح، مهما ارتقت درجاته، لن يؤدي إلى المساواة. إن التسامح هو أقل درجة من المساواة، لأنه يتضمن تفاوتا في الحق، وأن المتسامح هو صاحب الحق، وأن تسامحه هو "منة" وهبها للآخر. بمعنى أن التسامح يقتضي تنازلا وتكرما على الآخر. والحال أن المجتمعات المعاصرة تطمح إلى المساواة، ولعل الوضع الذي يعيشه المهاجر العربي/المسلم في أمريكا يجعله يفهم الفارق الخطير بين "المساواة" و"التسامح". وبالرغم من أن القوانين الأمريكية، مثلا، تعمل بمبدإ ”المساواة“، وهو ما يحياه المهاجر في علاقاته مع المؤسسات الحكومية، والقضائية؛ فإن "التسامح" هو السمة المهيمنة على سلوكيات الأفراد والمجتمع الأمريكي، أي إن المساواة حاضرة وهي التي تشكل المعيار، لكنها تخفت تدريجيا كلما اتجهنا نحو النظرة الاجتماعية، والتي تترجمها في الغالب الخطابات السياسية اليمينية أو تلك المتطرفة، والتي هي في الغالب ذات خلفيات دينية أصولية (مسيحية)، ونستني الإسلام ما دام أنه يشكل دين أقلية على الهامش. أما عن المفهوم الأكثر شيوعا بين الناس فهو "المحافظة، أي إن المجتمعات العربية مجتمعات محافظة. والمقصود بذلك الالتزام بقيم وأعراف وتقاليد ترسخت في الوعي الاجتماعي، وتدور في الغالب حول الشرف والعفة. والحال أن التحولات التي يقدمها الواقع المجتمعي، على مستوى الممارسة، تجعل من هذا المفهوم مجرد قناع يخفي جانبا مهما من الممارسات الاجتماعية ويبقي عليها في الظل والعتمة، أي إن "المحافظة" تصبح مجرد تقنية لإخفاء سلوكات وعوالم كثيرا ما تتفجر على شكل "قضايا" تأخذ بعدا "فضائحيا" يتواطأ الجميع على حصرها في حالة "الاستثناء" واعتبارها مجرد حالات فردية لا تعبر عن الوجه الحقيقي والمهيمن للمجتمع، في حين أن المتعمق في دواخل المجتمع يكتشف أن مفهوم "مجتمع محافظ" ليس هو ما يريد أن يسوقه المجتمع، على المستوى الرسمي. وهذا لا يسهم إلا في ازدياد مساحة الممارسات المضادة لكل ما يزعم المجتمع ويعمل على الترويج له ظاهريا، إذ يصبح دور الجميع هو "التستر" على "الواقع" المعيش. المهم هو الصمت عن الظواهر لا معالجتها أو مناقشتها. ولعل هذا الدور الرقابي الذي يحاول أن يبقي على هذا التنافر بين الواقع وبين الصورة المروجة له لن ينتهي إلا بانفجار الواقع وبسط سلطته. وهذا التجلي يبدو واضحا في "هندسة" الجسد، أي اللباس، باعتباره تعبيرا صارخا عن تصور ونظرة لعالم، وكذا في باقي مناحي الحياة الاجتماعية. ولعل هذا التنافر الذي يصبح اختلالات خطيرة، يجد معناه السلبي أكثر في سياق الغرب. إن التعارض/ التصادم بين القيم النظرية الأسطورية التي سكنت الوعي الاجتماعي، من دون أن تكون تحققت يوما بالشكل المروج له، وبين القيم الإنسانية التي تؤسس لقيم العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية التي تمثل خلاصة الصيرورة الفكرية والتاريخية للتجربة الإنسانية يجعل من قيمنا، أو بالأحرى فهمنا للقيم، فهما خاطئا ومغلوطا. ولهذا، فنحن بحاجة إلى الأسئلة التأسيسية وتفكيك فهمنا والحفر في الكائن، حتى نتمكن من التأسيس لقيم سامية مبنية على القيم الإنسانية المثلى. كما ينبغي تجاوز الخلل، من خلال التعامل مع الظواهر والتحولات بالمزيد من الواقعية، وأن نعتبر واقعا هو حصيلة جدلية تاريخية ونعمل على توجيهها وتنميتها بالمزيد من قيم العدالة والمساواة والحرية. ولن يتأتى لنا ذلك كله إلا إذا نحن تصالحنا مع تاريخينا، عبر إعادة فهمه واستجلاء مواقع الخلل فيه.. نحتاج إلى التصالح مع تاريخنا، وأن نعتذر لواقعنا الذي نمارس من خلاله هدرا للقيم الإنسانية الحقة، وبعدها سيكون من الممكن أن نصنع آليات أخرى لمعالجة الواقع والعيش فيه وإلا فإن اتساع الهوة بين ما ننادي به وبين ما تنتجه من سلوكات لن يؤدي إلا إلى مزيد من الابتعاد عن الواقع وعن المساهمة في صناعة التاريخ الإنساني.