الطريقة المؤسفة التي انتهت بها الفترة الثانية لولاية السيد عبدالإله بنكيران كرئيس للحكومة، حملت معها الكثير من التساؤلات، على ضوء الذي جرى مع الرجل طيلة نحو ستة أشهر من المشاورات مع الأحزاب الممثلة في البرلمان، لم تؤد إلا إلى طريق مسدود وإلى علامات استفهام كبرى، وحدها الأيام المقبلة ستجيبنا عليها ! وبعد أن كان بنكيران (الأمين العام لحزب العدالة والتنمية)، يراهن على تدخّل القصر الملكي لتسهيل مهمته في تشكيل الحكومة، خاصة في ظل العراقيل والشروط المجحفة التي وضعها عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، فوجئ ببلاغ صادر عن الديوان الملكي ينهي ولايته الثانية، ويعلن عن استبداله بشخصية من نفس حزبه، وهو ما كان بعد مرور 48 ساعة فقط عن الإعفاء، حيث تم تعيين السيد سعد الدين العثماني رئيسا جديدا للحكومة. ويبدو أن بلاغ الديوان الملكي الصادر في 15 مارس 2017 جاء حمّالا للكثير من الرسائل والإشارات، التي لم تنل ما تستحقه من تسليط للأضواء من طرف المتتبعين، لاستنباط معانيها وإيماءاتها؛ بحيث –بنظرنا المتواضع- يمكن أن يُلَخص البلاغ حالة نفسية معينة هي تحديدا "عدم رضا" الدولة، ليس فقط على السيد بنكيران الذي يعرف الجميع أنه نقل مؤسسة رئاسة الحكومة (الوزارة الأولى سابقا) من القالب النمطي الذي عُرفت به طيلة التاريخ السياسي المغربي من كونها فقط وزارة متقدمة (الأولى) عن باقي الوزارات الأخريات، إلى مؤسسة (رئاسية) مبادِرة، على الأقل انطلاقا مما خولها إياه دستور2011، ولكن هو "عدم رضا" على الحزب برمته، وذلك للأسباب التالية، كما نزعم؛ أولا: السيد بنكيران بالرغم مما أظهره طيلة فترة ولايته السابقة من اندفاع وتهافت على إظهار ولائه للنظام وللملك تحديدا، بحيث صار المَثل الأبرز الذي يُضرب به القول/ "ملكي أكثر من الملك"، إلا أنه كان يرتكب مع ذلك، ومن حين لآخر، أخطاء قاتلة تجعل المتتبع أمام ريب وشك، فبالأحرى بالنسبة للنظام المخزني القائم منذ قرون على ضرورة إبداء "خدامه الأوفياء" لولائهم التام والبات الذي لا تشوبه شائبة. ولعل من أبرز تلك الأخطاء (الكثيرة) وأخطرها تصريحُ بنكيران على أن هناك دولتين في المغرب، وكان يقصد بذلك طبعا ما درج على وصفه هو وحزبه ب"التحكم"، والمقصود تحديدا وبدون ألغاز، الحزب المقرب من السلطة (الأصالة والمعاصرة) الذي اتهمته قيادات الحزب (الإسلامي) -تلميحا أو تصريحا- أكثر من مرة، على أنه يستمد قوته من مؤسسِه المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، بحيث أصبح "يتحكم" في عدد من الأحزاب ورجالات السلطة بطريقة تسمح له بإدارة المشهد السياسية تماما كما تدار الدولة ذات المؤسسات، بحسب زعم البيجيديين وأولُهم رئيسهم؛ ولسنا هنا في حاجة إلى التذكير بما درج عليه السياسيون وكبار مسؤولي الدولة من ضرورة لجم أفواههم بكثير من التحفظ والتريث عند الحديث عن الدولة/المخزن، بل والإعراض تماما حتى عن الإشارة إليها، ولو من باب التلميح، فما بالك أن تشكك في مركزيتها ومحوريتها وقوتها بأن تجعل لها نِدّا كذاك الذي جعله لها المستعمر إبان نفي السلطان محمد الخامس، وهذا لعمري لمن باب التشكيك في الشرعية حتّى ! إنه خطأ لا يُغتفر.. ثانيا: لا ينكر إلا مضلّل أو كاذبٌ مدى النجاح الذي حققه السيد بنكيران على المستوى الشعبي، بغض النظر عن اختلافنا مع الرجل حول كثير من السياسات العمومية التي أضرت بفئات عديدة من المجتمع، من قبيل إصلاح صناديق التقاعد ورفع الدعم عن عديد من المواد وغير ذلك؛ ولسنا نشك في كونه ربما السياسي الوحيد -منذ زمن- الذي استطاع تبسيط الخوض في السياسة والحديث فيها من طرف حتى عامة الناس. ويكفي التدليل على ذلك بما بات ممكنا الوقوف عليه فقط في الشارع العام من أحاديث الناس البسطاء عن مواضيع سياسية تهم الحكومة والوزراء ورئيس الحكومة و"الحزب الحاكم" و"الدعم" و"المقاصة" و"الانتخابات" وغيرها.. دعك عن مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت منابر نشطة للتواصل السياسي، من خلالها يعبر الكثير من الوزراء عن مواقفهم بينما يرد عليهم الناس/النشطاء بآرائهم وانتقاداتهم وأحيانا بعرائض وصفحات احتجاجية أو تأييدية ضد أو مع هذا الوزير أو ذاك. إن هذه الشعبية التي كسبها بنكيران –رغم علاتها- إضافة إلى كاريزما شخصيته التي كانت تتجلى واضحة في كثير من الأحيان في خطاباته المعبرة ضمنا عن تخطي وتحدي بعض ما يمكن تسميته "الخطوط الحمراء" التي ألِف "خدام الدولة" من الوزراء عدم المجازفة بتجاوزها، لَهي مؤشرات أضحت تحرج إن لم تكن تقلق النظام السياسي للبلاد القائم على إبراز رئيس الدولة بكونه الأول في كل شيء ولاسيما على المستوى السياسي والاجتماعي والشعبي. ثالثا: وهذا له علاقة بالسبب السالف الذكر، أن الدولة كانت مع قرب انتهاء ولاية بنكيران الأولى توشك على أن يضيق صدرها بتصرفاته وتصريحاته تلك غير المتزنة، من مِثل ما ذكرنا سابقا، ولذلك فقد كان يراهن جانبٌ مُهِم من السلطة على مؤتمر الحزب الذي كان مقررا في السنة الماضية قبل أن يتأجل إلى أجل غير مُسمى، بمبررات غريبة وغير مسبوقة في تاريخ الحزب الذي ظل منذ تأسيسه يحافظ على التنظيم المنتظم لمؤتمراته واستبدال قياداته في تناغم تام مع قوانينه الداخلية إلى درجة أنه أصبح مثالا يحتذى به على مستوى الأحزاب. وكانت قيادات البيجيدي قد جست نبض الشارع وعرفت بأن توجّه بوصلة الناخب في اقتراع 07 أكتوبر سيكون لفائدة حزبها، ومن تم ارتأت بقاء بنكيران على رأس الأمانة العامة، دون عقد المؤتمر الذي كان يُفترض تغييره فيه، لأن ذلك يعني بقاءه رئيس حكومة..وهذا ما صدق بعد ذلك الفوز الكاسح للحزب في الانتخابات (125 مقعدا نيابيا) ليتم تعيينه من طرف الملك من جديد رئيسا للحكومة لولاية ثانية، في سابقة من نوعها في التاريخ السياسي المغربي؛ بحيث صدق حدْس قيادة الحزب وخاب توقع النظام السياسي الذي كان يراهن على كون رسائل الملك العديدة -على الأقل في خطاباته الرسمية- المنتقدة لحكومة بنكيران ولطريقة تدبيرها لبعض الملفات، والمهاجمة ضمنيا لتصريحات بنكيران حول "ازدواجية الدولة" و"المس بالمؤسسات"، (الرسائل) قد يلتقطها "إخوان" بنكيران ويقوموا بتغييره في مؤتمرهم، لكن شيئا من ذلك قد وقع ! والنتيجة أن كان التعثر أو البلوكاج الذي عرفه مسار تشكيل الحكومة، بدءاً بترؤس أخنوش لحزب "الأحرار" بتلك الطريقة المريبة، ومرورا بالإملاءات غير المتناهية للملياردير السوسي وانتخاب رئيس مجلس النواب من حزب صُنف مبدئيا في المعارضة، ثم وصولا إلى الإعفاء في 15 مارس. أي مستقبل؟ سيناريو إعفاء بنكيران لم ينته بالبلاغ الصادر عن الديوان الملكي، بل إن البلاغ قد يكون بداية لما هو آتٍ من تطورات، بحيث إن قراءة بسيطة في البلاغ توحي على وجود "عدم رضا" على شخص بنكيران، ليس بالضرورة للأسباب التي أسلفنا وقد يكون عدم ذاك الرضا للأسباب التي عددها الديوان (عدم تشكيل الحكومة لأزيد من خمسة أشهر، وانعدام مؤشرات توحي بقرب تشكيلها)، وعدم الرضا هذا ترجمه، بما لا يدع للشك مجالا، طريقة صياغة البلاغ الملكي، إذ بدأ مباشرة بتقديم مصوغات أو مبررات الإعفاء المسبوقة بحرف "قدْ" (لقد سبق (..) للملك أن بادر بتعيين بنكيران 48 ساعة مباشرة بعد الانتخابات...فقد سبق أن حث رئيس الحكومة المعين، عدة مرات، على تسريع تكوين الحكومة الجديدة)، قبل أن يتحدث بلاغ الديوان عن "الصلاحيات الدستورية" للملك، "بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، وحرصا من جلالته على تجاوز وضعية الجمود الحالية". وهو ما يشير إلى الطابع الاستعجالي والانفعالي لمحرر البلاغ أمام وضعية غير عادية وغير طبيعية جعلته يبدأ بما يشبه "التحذير" والتأكيد عليه ب(قدْ)، قبل أن يسوق ما ينص عليه الدستور ويكفله للملك، وكان الأمر سيكون غير مثير لقراءات شتى لو بدأ البلاغ بالإشارة إلى مقتضيات الدستور كتوطئة قبل أن يسرد أو يشير إلى ما فعله الملك من تعيين وتنبيه ! ومن المثير أيضا في بلاغ القصر الملكي أن حتى الوكالة الرسمية للأنباء ارتبكت في التعامل معه ولم تعطه عنوانا معينا وتمهد له بجملة، على غرار باقي البلاغات الصادرة عن الديوان، كأن تعنون مثلا ب (جلالة الملك يعفي السيد بنكيران من مهامه)، ونشرت البلاغ كمادة خام ولكن كقصاصة للأنباء، معنونا بعنوانه الذي خرج به من الديوان الملكي (بلاغ من الديوان الملكي)، فيه الكثير من الهدم لأسس المهنية، اللهم إذا تحولت وكالة الأنباء لِملحقة للديوان الملكي أو لمنبر إلكتروني له في ظل عدم توفره على ذلك. كلام البلاغ لم ينته بعد، ولكن إشارته إلى أن الملك فضل أن "يتخذ هذا القرار السامي، من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور"، بقدر ما يجسد إرادة الملك، كما قال، وحرصه على توطيد الاختيار الديمقراطي، وصيانة المكاسب التي حققتها بلادنا في هذا المجال، إلا أنه مع ذلك يُطرح معه السؤال عما إذا كانت عبارة "كل الاختيارات المتاحة" ستجعل الملك يقدم بعد حين (خلال أيام أو أشهر) على إعفاء السيد العثماني من مهامه، والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، باعتبارها أبرز وأفضل الخيارات المتاحة (رغم صعوبة التحقيق)، وإغلاق –بالتالي- قوس حكومات "الربيع المغربي" الشبه إسلامية، بعد أن مُهد الطريق لحزبي الإدارة البارزين "الأصالة والمعاصرة" و"التجمع الوطني للأحرار"، وحلفائهما من باقي الأحزاب. ولعل ما يعضد توجه القائلين بإمكانية هذا المنحى هو ظنهم أن مدة الستة أشهر بدون حكومة جعلت المواطن يقتنع بلا جدواها باعتبار أن الملك يسير البلاد بدون مشاكل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لعل تلك المدة من الجمود اضطرت البعض ليُغير موقفه من تأييده ل"الإسلاميين"، وهذه المعطيات الجديدة ربما تجعل الناخب يعيد النظر في التصويت هذه المرة إذا دُعي له ! [email protected] https://www.facebook.com/nourelyazid