1-ميثولوجيات أستعير هنا مفهوم "الميثولوجيات"، أو الخرافات الذائعة، والأساطير الرائجة، من المفكر السيميائي رولان بارت؛ وهي تعني مجموعة من التصورات الكاذبة، التي تتحول إلى مسلمات شائعة، وإلى قناعات راسخة، لكنها خاطئة، ولا تصمد أمام التحليل. تبدو الميثولوجيات كأنها تمشي ب"طبيعة الحال"، بينما هي، في الواقع، خطابات مخادعة، وسرديات محبوكة، ومزيفة. تعتمد الميثولوجيات على التضمين (التضمين في النحو، حسب القاموس هو "إشراب لفظ معنى لفظ آخر، وإعطاؤه حكمه؛ لتصير الكلمة تؤدي معنى الكلمتين")، كما توظف المحسنات المعنوية مثل الاستعارة، والاقتباس، والتناص، والتورية. وللميثولوجيا علاقة وطيدة بالإيديولوجيا، إذ يلتقيان معا في الانتقائية، وفي تسفيه كل عملية تتوخى النقد، والتفكيك، والكشف، والتعرية. سوف أتناول في هذا المقال بعضا من الميثولوجيات الرائجة حاليا على الساحة الوطنية حول المدرسة عامة، والمدرسة العمومية خاصة. وأستعمل كلمة المدرسة في مفهومها الجامع لكافة الأسلاك التعليمية من الابتدائي إلى العالي. الميثولوجيات المتعلقة بالمدرسة كثيرة ومتنوعة بتنوع المنتجين لها، والمروجين لها، وكذا المتلقين والمستهلكين لها. سوف أكتفي باستعراض ثماني ميثولوجيات من بينها، وهي غيض من فيض. الميثولوجيا الأولى، الأكثر رواجاً اليوم، تتعلق بالمجانية. لا بد من الوقوف عند أربع حقائق. أولا، لن تشكل رسوم التسجيل، إذا ما ظلت محصورة في فئة القادرين، سوى نسبة محدودة جدا، لا شك أنها لن تغني ولن تسمن. ثانيا، الأثرياء يسجلون أبناءهم في المدارس الخاصة، وفي الجامعات الأجنبية؛ أما المسجلون في المؤسسات العمومية فهم، في الأغلب الأعم، ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، وإلى الفئات السفلى من الطبقة المتوسطة.. ليس عن اختيار، بل بسبب الفاقة والعوز، وعدم المقدرة. ثالثاً، القول إن المغرب يعرف مجانية التعليم قول يجانب الحقيقة، وليس صحيحا أن الأسر لا تساهم في إجمالي التكلفة للتمدرس. رابعاً، تضامن الميسورين، وإسهامهم في تمويل المدرسة العمومية ينبغي أن يتم عن طريق النظام الضريبي، لأنه الحل الأنجع، وهو أكثر قابلية للتطبيق من إجرائية الاستهداف، والإعفاء التي تتطلب ميكانيزمات معقدة غير مضمونة في نتائجها. يربط الميثاق الوطني للتربية والتكوين )1999( بين مساهمة الأسر برسوم التسجيل وبين توافر شرط الجودة في منظومة التربية. ولقد جعل من عشرية التربية والتكوين فرصة للقيام بالإصلاحات المطلوبة المؤدية إلى ذلك . هناك قانون في الاقتصاد يعرف بقانون العرض والطلب. لا يمكن الرفع من الطلب على المدرسة إذا ما ظل العرض ضعيف المستوى من حيث المؤشرات الكمية، أي عدد المدارس وتوزيعها الترابي، أو من حيث الكيفية، أي الجودة والمردودية. الميثولوجيا الثانية تربط بين تحسين جودة المدرسة العمومية ومردوديتها، وبين الرفع من الاعتمادات المالية. وبما أن التكلفة أصبحت باهظة وثقيلة على ميزانية الدولة، فإن مساهمة الأسر من شأنها ليس فقط التخفيف من العبء، بل بإمكانها تعزيز التتبع والمراقبة من طرف الآباء وأولياء التلاميذ. هذه المقاربة لا تستقيم للأسباب التالية: أولا، لميزانية التربية والتكوين طبيعة استثمارية.. الاستثمار في أهم الرساميل على الإطلاق، وأكثرها إسهاما في إنتاج الثروة غير المادية، أو غير الملموسة، وفي الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية. ثانيا، المسألة كما يؤكد على ذلك "رأي" المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي حول "مشروع القانون الإطار" ليست مسألة تمويل بقدر ما هي مسألة "حكامة التمويل". ثالثا، تحسين الجودة يتطلب، في الوضعية الحالية شروطا ليست كلها مالية، تتجلى في التدبير العقلاني للمنظومة، وفي إعادة الاعتبار لمكانة المدرس، وللرسالة المنوطة به، ووقف خطاب التبخيس الذي يطال ذمة هيئة التربية والتكوين برمتها، وهو خطاب من النوع "الذاتي التحقيق". الميثولوجيا الثالثة تراهن على الشراكة بين المدرسة والقطاع الخاص لإيجاد حل لمعضلة التمويل والموارد. ويقوم هذا الخطاب غير المسبوق على ما يُعْزى، في النظر الليبرالي، إلى القطاع الخاص من تفوُّق في التنظيم، ومن امتياز في التدبير بالمقارنة مع القطاع العمومي. هذا التبرير مردود عليه من وجهين. من وجه أول، لا شيء يؤيد، في النظر كما في الواقع، هذا الامتياز المفترض، كما تُبيِّن ذلك المقارنات بين المدرسة العمومية والخصوصية. من وجه ثان، وهو الأهم، يُقابل السماح للقطاع الخاص بامتلاك سهم في ميزانية المدرسة السماح بامتلاك الحق، بعضه أو كله، في تحديد القيم التي ينبغي أن تسود في المنظومة التربوية الوطنية، وفي صياغة المضامين والمناهج والبرامج التي عليها أن تعتمدها، وذلك بناء على منطق التكُلْفة والمنفعة. وقد تمسي التربية، نتيجة لذلك، سلعة تتحكم في سعرها/قيمتها قوانين السوق ونسب الربح، مثلها في ذلك مثل جميع السلع المادية. الميثولوجيا الرابعة تتعلق بثنائية المنظومة بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية، إذ إن الثانية ليست سوى امتداد للأولى من حيث التنشئة، والتكوين، وأنها تقدم خدمة عمومية بتدبير خصوصي وبموارد ذاتية. في الواقع نجد عرْضين وسوقين مختلفين، وغير متكافئين من حيث المنتوج، والتكوين، ومن حيث قابلية التشغيل: العرْض الخصوصي يَحْظى بالتمييز الإيجابي في السياسة العمومية، وبالأفضلية في التمثُّلات المجتمعية، ويحتل مكانة من الدرجة الأولى، على مستوى الولوج إلى سوق الشغل، ونوعية فرص العمل، ومعدلات الأجور. أما العرْض العمومي فيُنْظَر إليه على أنه عرض من الدرجة الثانية، حسب الشروط والمواصفات التي يتطلبها سوق الشغل، ومنها التمكُّن مما يصطلح عليه بالكفايات اللغوية، والمنهجية، والسلوكية. هذا التقسيم لا يستوي، ليس فقط من حيث شرط الإنصاف، الذي هو الشرط الجوهري المميز للمدرسة، بل أيضا من حيث التماسك الاجتماعي الذي بدونه لا تكون التنمية الشاملة. في السنوات القليلة الأخيرة، بدأنا نرى أن الثنائية أمست ثلاثية: المدرسة العمومية للفئات الفقيرة، الخصوصية للطبقة المتوسطة، المؤسسات الأجنبية للميسورين. الميثولوجيا الخامسة تزعُم أن اللغة العربية، كلغة للتدريس، تكمن وراء أزمة المستوى والجودة الإدراكية للتلاميذ. ولبيان الخطل الذي يركب بهذا الخطاب، أُحيل على بيان اللسان المنشور في مجلة النهضة (عدد 9، خريف 2014) والموقَّع من طرف مجموعة من المثقفين من جميع التخصصات والمشارب الفكرية. الميثولوجيا السادسة تجزم بأن الجامعة لا تكاد تُكوِّن سوى العاطلين، أو أنها، بالأحرى، تتحمل المسؤولية في نسبة معتبرة من بطالة الخريجين. في هذا القول الكثير من الحيف والميل. وظيفة التشغيل هي من وظائف الدولة والمقاولة، أما الجامعة فوظيفتها الأساسية هي التكوين والإعداد للحياة المهنية.. لا ينبغي الخلط بين الأدوار. من جهة، لا تنحصر وظيفة التعليم، من حيث الجوهر، في التحضير العملي، والتمرين التطبيقي، والإعداد الفوري للولوج إلى سوق الشغل. بل ليس من المهام الأساسية للمدرسة إعطاء وصفة جاهزة، وقابلة للتطبيق، كما قد يُحيل إلى ذلك المفهوم المتداول في الأدبيات الرمادية، أي مفهوم القابلية للتشغيل، أو الجاهزية للتشغيل. ومن جهة أخرى، لا ينبغي اختزال بطالة الشباب في بطالة حاملي الشهادات العليا فقط، حتى لا يترتب عن ذلك تحويل للاهتمام والجهد وللاعتمادات نحو ما قد يعتبر أنه الأهم على حساب الهام. إن المؤشر الأشد خطورة، والذي لا يحظى بالقدر المطلوب من الاهتمام العمومي والمجتمعي، يتجلى في نسبة الشباب، من الفئة العمرية 15 إلى 34 سنة، الذين هم خارج المنظومتين معا: 60٪ منهم لا شواهد لهم، و90٪ يقل مستواهم الدراسي عن مستوى الإعدادي. الميثولوجيا السابعة: على الجامعة أن تستجيب لحاجيات المقاولة، وأن تتوجه نحو تكوينات مُمهْنِنة، وجاهزة للتشغيل الفوري. هذه الميثولوجيا تقوم على فرضية خاطئة، وهي أن عملية التكوين والتشغيل عملية تتابُعية، وتعاقُبية، أو دياكرونية: التربية أولا، الشغل ثانيا، أو المدرسة للتكوين، والمقاولة للتشغيل. كل الدراسات تؤكد العكس؛ أي الطبيعة التكامُلية، والتزامُنية، أو السانكرونية، للعلاقة بين التكوين والتشغيل؛ ذلك أن التكوين أضحى ليس فقط من الوظائف التنظيمية والتدبيرية للمقاولة الحديثة، ومن مسؤولياتها الاجتماعية، بل هو من شروط الأداء، والكفاءة، والتنافسية، والمردودية، والربحية. من هنا، فإن الدور الأساسي المنوط بالجامعة يكمن في التربية النافعة، والتكوين الجيد، وفي تطوير البحث، والمساهمة في إنماء اقتصاد الابتكار، والنهوض بمجتمع المعرفة. الامتياز الاقتصادي المقارن، في عالم اليوم، لم يعد يقوم على العوامل التقليدية ومن بينها اليد العاملة غير المؤهلة، والعمل غير اللائق، والأجور الزهيدة التي لا تغني ولا تسمن. الميثولوجيا الثامنة: المدرسة العمومية توفر، في وضعيتها الراهنة، شرط الإنصاف وتكافؤ الفرص. يقول الميثاق الوطني للتربية والتكوين: "لا يُحْرم أي أحد من متابعة الدراسة بعد التعليم الإلزامي لأسباب مادية محضة، إذا ما استوفى الكفايات والمكتسبات اللازمة لذلك". ثلاثة حقائق تكشف عن محدودية المبدأ. أولا، نظرية العدالة بالمقْدُرات (أمارتيا سين) تُميز بين "الحقوق الشَّكْلية" (القانونية)، و"الحقوق الفعْلية" (القدُراتية). ثانيا، تكافؤ الفرص تبدأ مع "الشروط الأولية"(من تربية، وصحة، وسكن، وشغل) التي هي شروط أُسَرية، واجتماعية تحدد ما يسمى "تبعية المسار". ثالثا "تبعية المسار" تبعية تراكُمية تبدأ من ما قبل المدرسة، وتستمر في ما بعدها، أي في سوق الشغل. 2 - فرضيات الفرضية "قضية مُسلَّمة أو موضوعة للاستدلال بها على غيرها". وتبدأ المعرفة العلمية بالافتراض؛ أي "أن يضع الباحث فرضاً ليصل به إلى حلِّ مسألة معيَّنة، وهي مقولة تُقبَلُ على علَّتها دون إثبات" (معجم المعاني). ويُفْترض أن تكون الفرضية قابلة للفحص والدَّحْض كي تُعتبر فرضية علمية. أُفضِّل أن أستعمل هنا مفهوم "تجربة الفكر" (Expérience de pensée) التي يكون فيها النظر إلى التجربة من خلال إجرائيتها، وباعتبار العواقب المحتملة المترتبة عنها. الفرضية الأولى: تُعتبر التربية قيمة جوهرية، تكوينية، وإجرائية، في الآن نفسه، من منظور التنمية الشاملة، البشرية والمستدامة؛ أي إنها الغاية في حد ذاتها، وأعز ما يُطْلب، وهي الوسيلة والأداة للارتقاء الذاتي بالقدرات الفردية والجماعية. كان طه حسين يشبه التعليم بالماء والهواء. وفي كتابه مستقبل الثقافة في مصر نجد نقدا صارما لتوزُّع المنظومة التربوية بين تعليم ديني، ومدني، وأجنبي، وافتقادها للمشترك الوطني . ويشترط تحقيق مبدأ التربية للجميع، والتربية مدى الحياة، من بين ما يشترط: أولا، النهوض بالتعليم العمومي ما قبل المدرسي. ثانيا، الرفع من مُعدَّل الحياة المدرسية إلى 14 سنة للتحكم في تدفُّق الانقطاع المبكر؛ وهو ما يتطلب تقوية العرْض المدرسي، خاصة في الأسلاك الثانوية. ثالثا، الولوج إلى أسلاك التعليم العالي، وتحفيز البحث العلمي. الفرضية الثانية: الاستثمار في التربية والتكوين استثمار منتج، وليس كُلْفة فقط، إذا ما أخذنا في الحسبان، من جهة، الفاتورة المترتبة عن الهدر المدرسي، وعن الأمية والجهل من جهة، وما لرأس المال البشري من مردودية متعاظمة في الزمن من الجهة الموازية. الفرضية الثالثة: يشكل الشغل "قيمة مشتركة" ينبغي أن يتقاسمها الجميع، وألا تظل حكْراً على البعض، مهما كانت الأسباب. ليس من المعقول أن يُفوَّض للسوق سلطةُ التصرف، حسب قوانينه وأهوائه، في حق من حقوق المواطن بمنطوق الدستور. بل على الدولة أن تسعى، قولا وعملا، إلى توزيعه التوزيع العادل بين أفراد المجتمع، لكل حسب اختياراته وميولاته، ومن كل حسب كفاياته، ومكتسباته، وقدراته. الفرضية الرابعة: تكافؤ الفرص يبدأ قبل المدرسة، ويستمر عند الولوج إلى سوق الشغل وبعده.. إنه الشرط الذي يُضْفي المشروعية على الفرْز القائم على المؤهلات الذاتية. الفرضية الخامسة: لم يعد من الجائز النظر إلى العمل اللائق من الزاوية الأخلاقية فقط، مع ما للوازع الأخلاقي من أهمية؛ ذلك أنه أمسى يُشكِّل، في شروط "الثورة الصناعية الثالثة"، عاملا من عوامل الإنتاجية، والتنافسية، والتجويد، بل والإبداع والابتكار، الذي تتعاظم مساهمته في التطور الاقتصادي وفي التقدم الاجتماعي بتعاظم الاستثمار في التربية والتكوين والبحث العلمي. الفرضية السادسة تتعلق بالتحول الكبير الذي أخذ يعرفه الاقتصاد المغربي باعتبار الأوراش الكبرى، والرؤيات الإستراتيجية، والبرامج القطاعية المهيكلة، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وما يتطلبه ذلك من ارتقاء بالأداء الاقتصادي، ومن تأهيل لرأس المال البشري. ومن السبل الكفيلة بذلك تحفيز المقاولات على تطوير بنيات التكوين، وعلى تشغيل الكفاءات العالية، والنهوض بالعمل اللائق باعتبار المعايير الاجتماعية في تحديد الدعم الموجه إلى المقاولة. هذه بعض الفرضيات القابلة للجدل والنقد، ليست الغاية منها الحسم في موضوع من أعمق الموضوعات، وأدقِّها استشكالا، وأكثرها شدًّا لاهتمامات الناس، وأعلاها ترتيباً على سُلَّم أولويات المواطنين، بل الغاية منها التنويه إلى أن سؤال المدرسة يقتضي جوابا توافقيا بين مكونات المجتمع كافة، ولا ينبغي الفصل فيه في غياب أصحاب القضية، وبدون تقدير لأوضاعهم الحقيقية، وبالبناء فقط على ميثولوجيات النُّخبة، وتهافُتِ مكاتب الخبرة الأجنبية.