تحمل الوقائع والتحديات المتولدة عن دينامية التغيير التي يشهدها النظام الاقتصادي العالمي الجديد، في هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، توجهات توحي بتحول نوعي عميق سيطال مختلف مجالات الأنشطة المنتجة، ومن خلالها وظائف المقاولات ومهام المقاولين. وهذا التحول ناتج عن أربعة عوامل تخص الأدوار المستقبلية للمقاولين، وكذا أنماط تنظيم المقاولات وتدبيرها. ويتعلق الأمر بدور الفعل السياسي، والاجتماعي، والبيئي، والثقافي في صيرورة ومآل الحقل المقاولاتي. 1 – المقاولة والفعل السياسي غدا نشهد اليوم تنامي وعي كوني ناتج عن صحوة مواطنة تكاد موجتها تشمل جميع مكونات النظام الاقتصادي العالمي الجديد. ولقد وجدت هذه الصحوة في التكنولوجيات الجديدة للإعلام والتواصل، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، خير وسيلة للانتشار، بفعل ما تتيحه من إمكانيات هائلة للتبادل والتفاعل. ويعبر هذا الوعي الكوني عن نفسه بأشكال تارة عفوية ومنظمة، وتارة أخرى عن طريق حركات تقف عند حدود الاحتجاج والتمرد هنا، وتتحول إلى ثورات هناك، ولكن القاسم المشترك بينها يبقى هو رفض الفقر والبطالة والهشاشة والإقصاء والتهميش، وهذا من خلال التمرد على مختلف مظاهر الانتهاكات الجسيمة لكرامة الإنسان. ويخلق هذا الواقع في البلدان المعنية مناخ أعمال يثبط عزائم المستثمرين الوطنيين والأجانب، ويُفقِد الفاعلين ثقتهم في مؤسساتهم، بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية، ويساعد على انتشار جو عام من عدم الاستقرار وانعدام الأمن. ومن الطبيعي أن ترتفع، في هذه الظرفية السياسية العالمية الخاصة، أصوات تنادي بضرورة تغيير الحكامة الاقتصادية، وضمنها حكامة المقاولات، لجعلها أكثر تشاركية وشفافية وانخراطا في المسؤولية الاجتماعية. وهذا ما يحتم على مقاولات القرن الواحد والعشرين أن تعتمد مقاربة مبنية على احترام الأجيال الجديدة من الحقوق الاجتماعية، مع التركيز خاصة على مبدأ سمو القانون، وقواعد المنافسة النزيهة، وتكافؤ الفرص بين الفاعلين، وضبط الحقل الاقتصادي بآليات ملائمة للتتبع والتقييم والمراقبة والمحاسبة، ومحاربة كل الانحرافات، وخاصة منها اقتصاد الريع والرشوة والمحسوبية والزبونية والعلاقات المبنية على القرابة، فضلا عن تركز السلطة السياسية والاقتصادية بيد أقليات من المجتمع. ولا شك في أن هذا التحول السياسي الضروري سيؤثر حتما في المناخ العام للأعمال، وبالتالي في دينامية الاستثمار التي لها دور كبير في خلق المزيد من الثروات وفرص الشغل؛ ما يتطلب إعداد نموذج اجتماعي جديد قوامه التشاور والانفتاح على كافة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين مركزيا وترابيا، وذلك من خلال مأسسة دائمة للحوار الاجتماعي والمدني، وعبر تقوية المقاربات المبنية على التفاوض، والوساطة، والتعاقد. 2 - البناء التشاوري الحتمي لنموذج اجتماعي جديد لم يعد النموذج الاقتصادي الذي ساد في العالم طوال القرن العشرين يسمح للأنظمة الاقتصادية اليوم بأن توفق بين النمو الاقتصادي والتشغيل التام للجميع، والإنصاف الاجتماعي الذي يخدم مصالح أكبر عدد ممكن من المواطنين. فبفعل التغيرات الديمغرافية والتكنولوجية الجديدة أصبحت هذه الأنظمة عاجزة في القرن الواحد والعشرين عن خلق فرص شغل كافية لكل الساكنة النشيطة التي تلج سنويا أسواق الشغل الوطنية، بل إنها بحكم طبيعتها تعمق من التفاوتات الاجتماعية والمجالية وتلك المتعلقة بالنوع، ما يؤدي إلى الطريق المسدود، خاصة على مستوى الاعتمادات والميزانيات، مع ظهور صعوبات متزايدة للتوفيق بين النمو الاقتصادي والتضامن الاجتماعي. ومن ثم بات من الضروري تغيير النموذج الاجتماعي الحالي في اتجاه يستجيب للمعطيات الوليدة للتحولات الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة. ويتعين أن يقوم هذا النموذج الجديد على ثلاثة ركائز أساسية: أولا - استبدال النموذج السائد في تدبير العلاقات الاجتماعية والمهنية، الذي يحكمه الصراع بين الدولة والمجتمع المدني من جهة، وبين المنظمات النقابية وأرباب العمل من جهة ثانية، بنموذج قائم على إبرام تعاقدات اجتماعية كبرى عبر التشاور والإنصات الواسع والتفاوض. وسيكرس هذا التعاقد مأسسة الحوار الاجتماعي، ويوفق بين المرونة وتأمين استقرار العلاقات المهنية، ويفسح في الوقت نفسه المجال أمام أشكال متنوعة واعدة من تدبير الخلافات ذات الطابع المهني، كالوساطة، والاتفاقيات الجماعية، وكل الأشكال المبدعة الأخرى الرامية إلى التدبير السلمي لنزاعات الشغل الجماعية. ثانيا - جعل تعميم أرضية الحماية الاجتماعية الشاملة غاية لتحديث العلاقات المهنية ولتعزيز التنافسية، ليس فقط لأن هذا التعميم يواكب بروز جيل جديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل لأن هذه الحقوق أصبحت حاضرة بقوة في الدساتير الوطنية، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وخاصة المادتان 22 و25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواد 9 و11 و12 من الميثاق الدولي المتعلق بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتوصية 202 الصادرة عن المنظمة العالمية للشغل، التي صودق عليها في يونيو 2012 من طرف 187 دولة عضو في منظومة الأممالمتحدة. ثالثا- ابتكار وتجريب أنماط مبدعة إرادية لتوزيع الثروة والشغل تسمح لأكبر عدد ممكن من المواطنين، خاصة الأكثر فقرا وإقصاء منهم، الاستفادة بصفة تضامنية من ثمار النمو. ولن يكتب النجاح لهذا التحول النوعي إلا إذا آمن الجميع بجدواه، وعمل على تجسيده على أرض الواقع عبر نشأة جيل جديد من المقاولين والمقاولات، ومن النقابيين والنقابات، ومن المسيرين والإداريين، انسجاما مع المستلزمات الجديدة للمجتمعات والاقتصاديات في القرن الواحد والعشرين؛ وهو واقع يفرض على الدول أن تطور قدراتها، اليوم وغدا، لكي تتمكن من إنتاج نخب سياسية واقتصادية ونقابية وإدارية ذات كفاءة عالية، تتميز بالنزاهة وروح الالتزام والتشبث بقيم الحداثة والنقد الذاتي وثقافة الحوار والتعاقد والتضامن؛ ما يجعلها في مستوى الرهانات المرتبطة بهذا التحول الكبير، بما في ذلك الرهانات المرتبطة بالتغيرات المناخية، وما تتطلبه على صعيد المسؤولية البيئية للمقاولات والمقاولين. 3 – المقاولة ومستلزمات الاقتصاد الأخضر يتكاثر اليوم أمام أعيننا جيل جديد من المواطنين والمستهلكين، لا ينفك ينظم صفوفه وتزداد مطالبه وتفاعله ليس فقط مع مسألة الأسعار وجودة السلع والخدمات المقدمة له، بل أيضا مع اليقظة الصحية وجودة المنتجات الغذائية وشروط العناية الصحية وطبيعة الطاقات والتكنولوجيات التي استُعملت في إنتاج السلع وتوفير الخدمات، ومصدرها الجغرافي، والتي تندرج جميعها ضمن الإنتاج النظيف. هكذا أصبحت معايير الاستدامة والمحافظة على الموارد الطبيعية وطرق استخراج واستثمار وتحويل وتوزيع الموارد الفلاحية والمائية والمعدنية والطاقية، وتحمل مسؤولية الحفاظ على مصالح الأجيال المقبلة وتقاسمها تجد مكانا لها تدريجيا في المنطق الذي بدأ يعتمده مقاولو ومستهلكو القرن الواحد والعشرين. ومن آثار هذا التغير في سلوك المستهلك تنامي الوعي لدى المقاول، في مختلف بقاع العالم، بضرورة مراعاة شروط الاقتصاد الأخضر بصفة خاصة، وتلك المرتبطة بالتنمية المستدامة بصفة عامة. فضلا عن ذلك، فإن هذا التحول جعل المقاولات لا تراعي فقط معيار كلفة الإنتاج، ولكن جودته ونظافته واستدامته، مع السعي إلى التغيير المستدام المتواصل بفضل الابتكار. ويتطلب هذا المنحى الجديد بدوره تغييرا جذريا لتصور المقاولات لدورها ومهامها، مع جعل الثقافة والقيم والرأسمال اللامادي عموما رافعة مستقبلية لخلق الثروات. 4 - المقاولة وإنتاج القيم يكمن التحول الكبير في الاقتصاد العالمي خلال القرن الواحد والعشرين أيضا في قدرة المقاولات على الإسهام في التحكم إيجابا في ثلاثة أنواع من الأزمات المتفاقمة حاليا. يتعلق الأمر بأزمة الرابط الاجتماع، وتلاشي مبدأ العيش المشترك، وضعف التماسك الاجتماعي. وترتبط هذه الأنواع الثلاثة من الأزمات بنظام القيم والأبعاد الأساسية للرأسمال اللامادي، وخاصة الأبعاد الثقافية وتلك المرتبطة بالمعتقد التي لم يعد أحد يجادل في تداعياتها الحاسمة على التطورات التي بدأت تعرفها أنماط الإنتاج والتبادل. وبناء عليه، فإن مقاولة القرن الواحد والعشرين مدعوة أن تساهم في إنتاج قيم تقوي الرابط الاجتماعي، وترسخ العيش المشترك، وتعزز التماسك الاجتماعي، لتصبح بهذا فاعلا مستقبليا في تحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي والتماسك المجتمعي، بجانب الأسرة والمدرسة والدولة ومكونات المجتمع المدني الأساسية، كالحزب السياسي والمركزية النقابية والجمعيات. وضمن هذا المنظور يصبح الرهان الأساسي الذي تواجهه المقاولات خلال القرن الواحد والعشرين هو استيفاء شروط التوفيق بين المسؤولية الاجتماعية والمسؤولية البيئية والمسؤولية المجتمعية، إضافة إلى مسؤولياتها الأصلية المتمثلة في الاحتواء الناجع لكل أشكال الندرة، واعتماد طرق مبتكرة في تدبير أعمالها وتنظيمها، لتطوير قدراتها على إنتاج ثروات جديدة ضرورية لتمويل النمو والتضامن، ولإشباع الحاجيات الاجتماعية داخل الأسواق الوطنية والدولية، أخذا بعين الاعتبار التحقيق المشروع للربح. ولهذه الأسباب مجتمعة، الذي لا تخفى أهميتها الإستراتيجية بالنسبة إلى الاقتصاد والمجتمع، يتعين على المقاولات والمقاولين أن تعمد إلى تغيير جذري للقيم الثقافية التي تضعها في تدبير أعمالها، كي يتسنى لها إحداث هذا التحول المستقبلي النوعي بنجاعة على أسس متينة وملائمة لهذا التوجه الذي أصبح لا مندوحة عنه. وهذا السبب الجوهري هو الذي يجعل من مقاولي ومقاولات القرن الواحد والعشرين في صميم الرهانات التنموية الجديدة في أبعادها الاقتصادية والسياسية والبيئية والثقافية، وبالتالي في صلب مسؤولياتهم المجتمعية المستقبلية.