دولة القانون هي الدولة القادرة على تحقيق أمن واستقرار الجماعات والأفراد، وكذلك المساواة والعدل وعدم التمييز بين المواطنين. وأكبر تهديد للأمن الداخلي هو الفساد، الذي له علاقة جدلية بالاستبداد. وقضية ثروة شباط توضح أن الفساد تحول إلى عمل “منظّم”؛ فالرجل راكم ثروات طائلة من دون أي محاسبة، وهو ما يولد الانطباع بكون الفساد بات طريقة وفعلا من أفعال القيادة الحزبية. وما دامت المناسبة شرطا فإن تصريحات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة منتهية ولايتها، في مجلس المستشارين حول العدالة الاجتماعية واقتسام الثروة، دليل على عدم قدرته على فك معادلة مواجهة الفساد؛ لأنه اختار البقاء في السلطة، واتخاذ من محاربة الفساد قوتا إعلاميا للمزايدة، وكفزاعة سياسية لإخضاع قيادات شعبوية. بنكيران كلما أحس بأنه وضع نفسه في الزاوية الضيقة يتجه إلى محاولة خلق حالة الخوف والهلع والحساسية عند القواعد الشعبية بحديثه عن اللااستقرار، في محاولة لجعل نفسه ضمانا للإصلاح؛ وهي مناورة لطالما استخدمها كلما شعر بحركية التغيير، يفهم معه سبب تماطله في تنزيل خطاب الإصلاح كترسانة قانونية وترجمته في إجراءات عملية، والتي تبدأ بالكشف عن ثروات قادة الأحزاب السياسية الحالية. إن تعايش بنكيران مع الفساد يمكنه من المزايدة السياسية في إطار سياسة خلط الأمور على المواطن، حتى لا يتمكن من التمييز بين من يريد مواجهة الفساد وبين من يريد أن يستمر بالفساد؛ ولكن برفع خطاب الشفافية. إن هذا الوضع يمنعنا من تحقيق التحول في اتجاه تحقيق مرحلة التنمية والتي تمر لزوما بمواجهة الفساد المولد للاستبداد عبر محاسبة الفاسدين، وتطهير المشهد السياسي من نخبة فاسدة، عبر العمل على مواجهة سياسة الإفلات من العقاب أو سياسة "عفا الله عما سلف"، في الوقت الذي ننتظر فيه إقرار مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وإحالة كل من تثبت عليه شبة فساد إلى المحاكمة العادلة، بعيدا عن النهج السياسي الحالي والذي ظهر جليا في تعاطي وزارة العدل والحريات مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات بمنطق التوصيات، حيث يعمل على حفظها في مقابل توجيه ملفات من يعارض الحكومة سياسيا. إن ما بات يعرف بقضية "ثروة شباط" محك حقيقي لاعتبارين اثنين: الاعتبار الأول: كون بنكيران رئيس الحكومة أول من طالب شباط بكشف ثروته. والاعتبار الثاني: نشر جريدة "الأخبار" بالوثائق، واعتراف شباط نفسه بأن ثروته تقدر بالملايين، في لعبة المقصود منها تبرئة نفسه من ثروة اعترف بامتلاكها، ونهجه خطابا تحريضيا غايته خلط الأمور بين من يريد تبرير ثروته من شبهة الفساد واتجه إلى اتهام الدولة بقتل السياسيين غرقا في "واد الشراط"، ببوزنيقة، عبد الله بها وزير دولة وأحمد الزايدي النائب البرلماني، في عملية يريد من خلالها الظهور بمظهر الراديكالية. والحال أنه يريد الهروب إلى الأمام. قضية ثروة شباط" هي غيض من فيض، في كون بنكيران وحزبه اتخذا من الفساد قوتا إعلاميا للاستهلاك الإعلامي، يوضح البعد السياسيوي، وتعطيل الفصول القانونية التي تفترض تحريك الآليات القانونية، "لتبرير شباط لثروته" وشبهة الفساد، في المقابل لم تحرك كتائب العدالة والتنمية وصقورها وركتهم الدعوية لسانها، وامتناع بنكيران رئيس الحكومة والرميد وزير العدل عن تفعيل القانون سلوك لا قانوني ولا أخلاقي، لأن الامتناع عن الفعل هو فعل، وهو في حد ذاته جريمة التغطية على جرائم فيها شبهة فساد وسرقة المال العام في وضح النهار. صمت يعطي الانطباع بأن هناك توظيفا للملف سياسيا، لجعل شباط كأداة سياسية لفعل المزايدة، مما يخدم أجندة العدالة والتنمية للهيمنة، الأمر الذي يمكن أن يفسر انقلاب شباط في مواقفه السياسية اتجاه بنكيران الذي قال فيه ما لم يقل مالك في الخمر، وبات بين ليلة وعشية يضفي على بنكيران بكونه الحاصل على الإرادة الشعبية ورمزا للديمقراطية، لم يتوان في لعب دور المحافظ المحرض، ولم يكتف بضرب خصوم السياسيين لبنكيران بل ضرباته السياسية مست الدولة والعلاقات الخارجية، بدءا من حادث موريتانيا وترديد خطاب أعداء الوحدة الترابية باعتبار الدخول إلى الاتحاد الإفريقي اعتراف بالجمهورية الوهمية. كل هذه التصريحات لم تسعف وزير العدل لتحريك المسطرة المباشرة للتحقق مع شباط، بالرغم من ما فيها من مس بأمن الدولة الداخلي، بل انتظر إلى غاية توجيه الشكاية من وزارة الداخلية. في وقت تفترض فيه دولة المؤسسات أن يكون رئيس الحكومة بالمعنى الأول حريصا على سلامة الدولة الداخلي والخارجي، ولا شبهة الفساد الذي لا يختلف اثنان في كونه أكبر مهدد لسلامة الدولة. والمسؤول الأول المعني بإسقاط الفساد، لا بحكم شعاره الانتخابي الذي تعاقد مع المواطنين على أساسه "صوتك وسيلتك لإسقاط الفساد والاستبداد"، ولا بحكم التصريح الحكومي الذي على أساسه نال ثقة البرلمان، ولا من وقعه الدستوري كرئيس في التركيبة الحكومية والمسؤول الأول على تنفيذ السياسة العمومية فحسب، بل انطلاقًا من قسمه أثناء التعيين بين أيدي الملك، هذا القسم الذي يُعدّ التزامًا وجوبيًا عليه لما يحمله من معان ودلالات والتزامات، في خدمة الثوابت ومصلحة الوطن. ولا تماشيا مع الشعار الذي اختاره الحزب لاستحقاقات 7 أكتوبر "صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاح". الإصلاح لا يكون من خلال المخاتلة السياسية؛ بل إن أي إصلاح، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا، لا يمكن له أن ينجح إلا بمحاسبة الفاسدين مهما علا شأنهم حتى لو كانوا من بيته السياسي، إعمالا للدولة القانون والتزاما وجوبيا لرئيس الحكومة، لطالما وعد به بدون تطبيق. النهج البنكيراني يقوم على توظيف الفساد لكونه ضمان للاستمرار في السلطة، وهنا ليس بالعبث بإطلاق بنكيران شعار "عفا الله عما سلف"، بل ترجمة لحمايته المفسدين؛ فحزب بنكيران لا يملك مشروعا اقتصاديا ولا سياسيا، وهو ما جعل حزبه والمفسدين يتغذيان على بعضهما البعض، فأي ضعف في واحدة منهما هو ضعف للأخرى. لقد أضاعت الحكومة الوقت خلال الولاية السابقة، وأظهرت عدم الجدية في ترجمة إسقاط الفساد في سياسة عمومية فعلية، تجعل مواجهة الفساد مواجهة شعبية في شتى المجالات، عبر تنزيل شفاف للقوانين التنظيمية، أبرزها الفصل ال27 المتعلق بحق الاطلاع على المعلومة وحق المواطنين والمواطنات في تقديم الملتمسات والعرائض تنزيلا للمقاربة التشاركية، لما يتطلبه إسقاط الفساد. اتجهت الحكومة إلى الإسراع في إخراج قانون المناصب السامية، والمماطلة في إخراج القوانين التنظيمية التي ترسخ المقاربة التشاركية، عبر جعلها ضيقة شأنها شأن القانون التنظيمي الذي يهم الاطلاع على المعلومات، الفصل ال27. إن هذا الوضع لم يمنعنا من إكمال مسيرة مواجهة الفساد، إنما حتّم علينا تصعيد المواجهة وتعميم الوعي والمعرفة بالفساد والمفسدين والعمل على حماية الأجهزة الرقابية وتفعيلها وتطهيرها من أزلام السلطة الذين هم الشريك الأكبر في تعميم الفساد؛ فمواجهة الفساد تكون عبر تفعيل القانون، خصوصًا النيابة العامة، وتمكين الإدارات العمومية من الوثائق والمعطيات التي بحوزتها وفقا للفصل ال27 من الدستور. لا لتوظيف ترهيب الخصوم وشراء الذمم وتوظيفهم للمزايدة السياسية. وليس أدل على ذلك قضية ثروة شباط التي لا تزال دون حسيب أو رقيب، وإن عدم التحقيق في ثروة شباط يؤشر على حالة التسيب نتيجة تخلي المؤسسات في القيام بدورهما. فلن نتقدم خطوة إلى الأمام من دون الحسم مع الفساد والمفسدين عبر مواجهته مواجهة مفتوحة على كل الأصعدة، من خلال إعمال مقاربة تشاركية تجعل من قضية محاربة الفساد قضية شعبية، لكي تأخذ كل الملفات وجهتها الحقيقية في إطار دولة القانون وبأن تأخذ محاسبة الفاسدين مشروعيتها الشعبية وإطارها الشامل وفق آليات محددة، يسهم كل مواطن من موقعه في إسقاط الفساد. الفساد يتطلب رجال دولة برؤية سياسية متكاملة ذات مدى متوسط وطويل لكونها مواجهة صعبة تستدعي الإيمان بالانتصار للوطن والوطن أولا وأخيرا، نخبة يهمها مستقبل الأجيال اللاحقة وليس الانتخابات أو نخبة سياسية غايتها السلطة لذاتها. لا خيار أمامنا إلا أن نخوض معركة مواجهة الفساد.