تعد دراسة موضوع الوظيفة الدينية للنظام السياسي المغربي، من المواضيع الشائكة والمعقدة ، والتي نالت حظا وافرا من الاسهامات العلمية و النقدية سواء المغربية منها[1]، أو التي كانت حول المغرب[2] . فإشكالية السلطة في المغرب لها امتداد زمني ترجع الى نظام الحكم في الإسلام، والاشكالات التي صاحبت سيرورة تطور المجتمعات الاسلامية خصوصا بعد وفاة الرسول محمد، والتي أثرت في الامتداد الرمزي للسلطة في المغرب . فالبرغم من ارتباط نضالات الحركة التحررية في المغرب بضرورة تبني المنظومة الدستورية الغربية، كمدخل للاستقلال. فإن وضع المؤسسات الدستورية ظل رهين بممارسة تقليدية قوامها حكم الامامة المستمد من الحقل الديني، والذي يجعل امير المؤمنين بحمولته الرمزية الدينية فوق الدستور، وفوق المؤسسات. ليظل احتكار المجال السياسي، خصوصا في الفترات الاولى للاستقلال، مرتبطا بمدى ضبط المجال الديني، الذي اعتبره بعض الباحثين، مجال للصراع والتنافس. يعد ملك المغرب منبع ومصدر القيم الدينية والدستورية والسياسية، ومحوريته في العملية السياسية مستمدة من نظام السلطنة التي تبني شرعية وجودها واستمراريتها من الحقل الديني في المغرب. مما جعل الحقل الديني بمثابة رهان للفاعلين السياسيين على مر التجربة السياسية المغربية، وبمثابة مجال للصراع والتنافس. فقد أظهرت التجربة السياسية منذ السنوات الأولى بعد الاستقلال, بخاصة فترات الصراع السياسي تجسيد الصراع بين أحزاب الحركة الوطنية، خصوصا حزب الاستقلال ذو المرجعية السلفية والملكية في القضايا المتعلقة بتدبير الحقل الديني.[3] إلا أن حالة الانقسام التي عرفتها الحركة من جراء تباينات على مستوى الخيارات السياسية والاقتصادية، مكن الملكية من حسم الصراع لصالحها وترسيخ استراتيجيتها الدينية. تم دسترة إمارة المؤمنين من خلال الفصل 19، وتم تقعيد التقنيات والمصطلحات السياسية التي تستلزمها هذه المؤسسة، وتوظيفها كان بغرض كبح جناح اليسار المتطلع بقوة نحو الحداثة السياسية من جهة، ومن جهة أخرى وضع اليد على الحقل الديني وضبط مكوناته خاصة العلماء وتيارات الإسلام السياسي. واستخدمت البيعة كمصدر لمشروعية حكم أمير المؤمنين في عديد من الخطابات و القرارات الملكية. فإلى أي حد تتأثر المحددات السياسية بالحقل الديني ؟ سنقوم بدراسة أهم مراحل عملية الضبط التي طالت الحقل الديني ارتباطا بالتحولات التي عرفها المجتمع و بتغيرات على مستوى موازين القوى، والتي انعكست بالضرورة على خطاب الفاعلين وسنقف عند خطاب المؤسسة الملكية في فترات متفرقة . أولا : مسار ضبط الحقل الديني في المغرب ظل هاجس الملكية في ضبط المجال السياسي رهينا باحتكار وضبط الحقل الديني[5] عبر ما يسميه بعض الباحثين بقنوات التحكم، بداية بمخزنة الزوايا التي جعلها تابعة لسلطة المخزن، وتحييدها كقوى سياسية منافسة وجعلها مجرد جهاز من أجهزته تنوب عنه في بعض الأعباء الاجتماعية[6]. ومن خلال قنوات الضبط التي ستطال العلماء باعتبارهم الفاعلين المركزين في مجال "الدعوة" سواء التحكم أولا في عملية إنتاجهم من خلال الإعلان عن تأسيس دار الحديث الحسنية سنة 1964 ، رغم ما عرفته من صراعات داخلية، بعدما صدرت عن علماء الدار مواقف غير منسجمة مع السياسة الدينية الرسمية. خصوصا مع تزايد المد الأصولي الذي عرفه العالم العربي والإسلامي خلال فترة ما يسمى بالصحوة الإسلامية. ثانيا في عملية التوجيه التي تقوم بها وزارة الأوقاف خاصة صناعة وتوجيه الخطاب الديني عبر منابر المساجد . موظفا منطق الدعوة لخدمة الدولة والنظام في مواجهة الخصوم والتداعيات الخارجية المحيطة[7] . كما عملت السلطة السياسية في المغرب منذ الاستقلال على تحجيم دور العلماء، وقد اتخذ هذا التحكيم مغزاه خصوصا باستراتيجية بنيت على إجراءين أساسيين: أولهما، سياسي تمثل في إضعاف العلماء بربطهم بسلك الوظيفة العمومية، والثاني مذهبي من خلال احتكار تأويل الخطاب الديني وحصر مجال الفتوى في شخص أمير المؤمنين الذي يرأس المجلس العلمي الأعلى . وتم إبعادهم عن السياسة اليومية والاقتصار على التأطير الديني والهادف إلى صيانة وحدة الأمة على مستوى المذهب والعقيدة حسب ما جاء في الفصل الثاني من الظهير المؤسس للمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية، وما أكده الملك الراحل الحسن الثاني في الكثير من خطبه و توجيهاته[8] . عملية الضبط هذه والتي صاحبت الاحتقان المجتمعي والإيديولوجي في فترات متقطعة أهمها فترة ما يسمى بالصحوة الاسلامية وبروز جماعات دينية منافسة، ومواجهة للملكية في إعادة تدبير المجال الديني الذي حاولت الدولة المغربية ترسيخ نمط ديني يجعل من العقيدة الأشعرية والتصوف الجنيد ركيزة ومقومات الهوية الدينية. هذا التباين حول الاختيارات الايديولوجية زاد من حدة المواجهة بعد توغل هذه الجماعات الدينية [9]، بحيث أضعف وتراجعت الزوايا والأضرحة والطرق الصوفية مما كان له أثر كبير في قدرة هذه المؤسسات التقليدية على ممارسة فعالية الضبط التي أنيطت بها، ولقد نتجت عملية التقنين والضبط هذه عن ما يشهده الحقل الديني من صراع إيديولوجي داخلي، والذي اتخذ أشكالا أكثر عنفا مع أحداث الدار بيضاء. مما يحيلنا لطرح تساؤلات حول توجهات الدينية للنظام ومدى قدرتها على مقاومة المؤثرات الخارجية. عملية الضبط صاحبت دينامية المجتمع، في شقه المتعلق بالتحولات التي عرفها نمط التدين وكذا تغير موازين القوى ارتباطا بالمناخ الاقليمي والدولي. خصوصا بعد أحداث الداربيضاء، وتفشي ظاهرة الإرهاب في العالم. بالتالي حتى السياسة و توجهات الدولة ستتماهى مع هذا المعطى وستنعكس على خطاب الفاعلين. في المحور الموالي سنقارب الوظيفة الدينية من خلال دراسة بنية الخطاب السياسي لإمارة المؤمنين في فترات متفرقة و في ظروف سياسية معينة . ثانيا : الخطاب الملكي تجسيد للوظيفة الدينية لأمير المؤمنين مسار دسترة إمارة المؤمنين وضبط الحقل الديني في المغرب كان ولازال احتياط استراتيجي يسمح للسلطة الملكية بتعويض الدستور، و تجاوزه لضمان المشروعية الدينية التي تستوجب السمع و الطاعة. إلا أن سياسة الدولة لا تغض الطرف عن ما يعرفه المجتمع المغربي من دينامية على مستوى التدين كنمط من أنماط ممارسة الدين، وعلى مستوى الاختيارات الاستراتيجية التي تعبر عن كل مرحلة على حدة، مما عكسته الخطابات الملكية. فقد ركزت خطابات الملك الراحل الحسن الثاني في مرحلة الصراع السياسي التي عرفها المغرب - تأكيدا في جل خطبه الموجهة سواء "للأمة " أو "لنواب الأمة- على الربط بين وحدة الأمة ووحدة المذهب وتأسيس لمفهوم الجماعة الدينية التي تنضوي تحت لواء السلطان : "نريد مغربا في أخلاقه وتصرفاته جسدا واحدا موحدا، تجمعه اللغة والدين ووحدة المذهب، فديننا القرآن والإسلام ولغتنا القرآن و مذهبنا مذهب الإمام مالك، ولم يقدم أجدادنا رحمة الله عليهم على التشبث بمذهب واحد عبثا أو رغبة في انتحال المذهب المالكي، بل اعتبروا أن وحدة المذهب كذلك من مكونات وحدة الأسرة "[10] وتأسيسا على ذلك تعد كل محاولة للخروج على مذهب الوحدة عملا هادفا إلى تشتيت كيان الأمة وتهديدا لحاضرها ومستقبلها، وهذ ما عبرت عنه الرسالة الموجهة إلى المؤتمر السابع لرابطة علماء المغرب 16 ماي 1979 ؛ "إن إدراكنا العميق ووعينا الكامل بخطر الغزو الفكري الهادف إلى المس بقيمنا الروحية وكياننا الأخلاقي القائم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرشيدة ليزيد من شعورنا بعبء المسؤولية الملقاة على عاتقنا كأمير للمؤمنين وحامي حمى الملة والدين في هذا البلد الأمين " . وقد تبنى الملك محمد السادس نفس استراتيجية الملك الراحل من خلال تنصيص خطبه على وحدة الأمة والمذهب، والبيعة كرباط شرعي بين الراعي والرعية. إلا أن الملاحظ أن الخطاب الرسمي للمؤسسة الملكية عرف نوعا من التماهي مع المراحل التي مر منها المغرب، فتارة يتم الحديث عن إسلام عصري منفتح خصوصا في خطاب الملك الراحل ، وجسد هذا في خطاب وجهه بمناسبة تأسيس المجلس الأعلى والمجالس الإقليمية، يقول الحسن الثاني "إن مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نظر السلطة أصبح مجالا مرنا يجب أن يواكب مستجدات العصر" ، ويقول أيضا " عوض أن نأخذ بيد العامل مثلا في مدينة ما و نريه لافتة أمام سينما فيها امرأة ربما بلباس السباحة و نقول هذا منكر، يصبح حقيقة دور العالم أنه غائب لا يزيد على أنه أصبح مقدما لحومة، ليس هكذا سنحارب المنكر، هذا شيء لا بد منه أصبح من باب الفقهيات مما يشوب الماء الذي يصلح للوضوء " . ثم يعود ويؤكد على ضرورة العودة لقيم الإسلام الحقة مع صعود تيارات الإسلام السياسي، ومحاولة منه تبني الصحوة ومخزنتها وفق ما يهدف للمحافظة على استمرارية الشرعية الدينية، ويظهر هذا جليا في الرسالة الموجهة للمغاربة وأفراد الأمة الإسلامية بمناسبة مطلع القرن 15 عشر هجري، حيث نجد فيها دعوة صريحة للعودة إلى الأصول وإقامة دولة الإسلام[11]. هذا التماهي والتكيف مع الأوضاع الراهنة استمر في عهد محمد السادس، ففي خطاب 20 غشت 2016 ، ظهر الملك كناقد للفكر الديني السلفي من خلال استنكاره للممارسات التي تقام باسم الدين، يقول: "هل يقبل العقل السليم أن يكون الجهاد والحصول على عدد من الحور العين وهل يقبل المنطق بأن من يستمع للموسيقى ستبلعه الأرض وغير هذا من الأكاذيب". استخدامه لفكرة العقل، المنطق وربط ما يخرج عن هذا المنهج بالأكاذيب، محاولة لإنتاج خطاب ديني عقلاني متسامح لا يحدث قطيعة مع الواقع و يتصالح مع الثقافات المتباينة في المجتمع، وبالموازاة مع هذا الخطاب تصدير صورة دولة تتنى الإسلام كمحدد لاستمراريتها في شخص الملك إلى الخارج خصوصا مع التحولات التي يعرفها العالم مع تنامي ظاهرة الإرهاب، وكذا لتأثير على الفاعلين السياسيين وخلق نوع من الإجماع حول الملكية و الإسلام. غير أن القرارات السياسية في المجال الديني، من حين لآخر تبقى غير قادرة على التأثير بشكل مباشر في المجتمع موضوع هذه السياسة، والتي يقابلها نفور ورفض يتخذ أشكالا متفاوتة من مجرد استنكار واحتجاج سلمي[12]،إلى أشدها عنفا وما جسدته الأحداث الدامية للدار البيضاء. *هوامش: 1- من الدراسات المهمة التي اعتمدنا عليها في هذا العرض محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب . محمد ضريف الاسلام السياسي ، دراسة وثائقية . 2- اقصد هنا الدراسات الاجنبية التي كانت حول المغرب ، خصوصا دراسات امثال : جون واتر بوري ، ريمي لوفو ، ريزيت... 3- ظهر هذا جليا في تضييق الخناق الذي مارسته الحكومة التي شكلت من اطر استقلالية ذو المرجعية السلفية ، على بعض الطرف الصوفية ، في مقابل اشاعة و فسح الطريق امام اشاعة الفكر السلفي . كما ظهر هذا ايضا في قضية محاكمة الشباب البهائيين في المغرب " راجع السياسية الدينية في المغرب ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة من اعداد عبد الله لقمان ، 2006 2007 ، جامعة القاضي عياض . 5- Mohamed Tozy , L'évolution du champ religieux marocain au défi de la mondialisation au https://www.cairn.info/article_p.php?ID_ARTICLE=RIPC_161_0063 vu le 20-11-2016 . 6- في فترة ما كان يسمى ب"السيبة"، كانت الزوايا المستقلة منافس محلي للسلطان ، خصوصا في تأطير الحقل الديني و قيام بمهام التحكيم . 7- محمد ضريف الأسلام السياسي في المغرب ، مقاربة وثائقية ، منشورات م ، مغربية ، لعلم الاجتماع س ط 2 ، ص 46 . 8- خطاب الحسن الثاني بمناسبة تأسيس المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الاقليمية . 9- بعد هزيمة 1967 وتنامي المد الاصولي في الوطن العربي وكان من اسبابه ، اندحار الايديولوجيا الناصرية القائمة على مفهوم القومية العربية ، وبداية الحقبة السعودية التي دعمت الحركات السلفية "راجع في هذا الصدد الحركات السلفية في المغرب ، عبد الحكيم ابو اللوز" ، كما تم اعتماد بعض الانظمة العربية على تكتك ضرب اليسار بالاسلاميين ، وقد تجسد في النموذج المصري مع السادات . 10- خطاب الملك الراحل أمام مجلس النواب ، اكتوبر 1970 . 11- يجعلنا نطرح سؤال محوري قد يتيح لنا فرصة التعمق اكثر في هذا الموضوع ، هل هناك فعلا وجود لما يسمى بالدين الرسمي ؟ ام ان امارة المؤمنين في المغرب تسعى فقط للحفاظ على استمراريتها و لو بتني طروحات و افكار خارج المذهب الرسمي ؟ . 12- مقاطعة صلاة الجمعة 2 دجنبر2016 بمسجد يوسف بن تاشفين بفاس احتجاجا على توقيف امام وخطيب المسجد *طالب باحث في ماستر القانون الدستوري وعلم السياسة [email protected]