يحاول الباحث السياسي "مصطفى الخلفي" من خلال هذا المقال إبراز أهم المكاسب الإستراتيجية من خلال انسحاب المغرب من منطقة الكركرات، دون السقوط في المنطق التبريري –كما ذكر- معتمدا على البحث التاريخي في تقارير سابقة لمنظمة الأممالمتحدة، تحدد طريقة التعامل مع المنطقة العازلة الموجودة وراء الجدران الرملية الدفاعية؛ كما يرصد أبرز نقاط الضعف في موقف البوليساريو من خلال تعنتها ومحاولاتها التمويه على الموقف المغربي، والإشارات القوية التي يبعثها المغرب قبل صدور تقرير الأمين العام حول الصحراء المغربية الشهر المقبل. وفي ما يلي نص المقال كاملا: على خلاف قراءات سقطت في المنطق التبريري الدفاعي عن قرار الانسحاب الأحادي للجيش المغربي من المنطقة العازلة جنوب الكركرات خلف الجدار الأمني، وهي قراءات لا ننزع عنها حسن نية خاصة، في ظل ضغط الدعاية الانفصالية؛ هناك حاجة في المقابل إلى قراءة مغايرة تنطلق من معطيات الوضع الراهن وتربطها بحقائق التاريخ، وتنظر إلى هذا القرار كتحول إستراتيجي في هذا النزاع، بعد أن واجهت المملكة إكراهاته وسلبياته في السابق؛ وذلك طيلة أزيد من عشر سنوات، واليوم نشهد تغيرا ذَا طبيعة إستراتيجية، فقد معه الخصوم وضعية امتياز، وعزز وضع بلادنا الهجومي. وقبل التفصيل في العناصر المكونة لهذا التحول، لا بد من تقدير الموقف الوطني القائم على التحلي بأعلى درجات ضبط النفس لتفويت الفرصة على الاستدراج لتوتر عسكري يخدم أجندة الانفصال، أو يتيح تصدير الأزمة الداخلية للجزائر. ويتجلى هذا التحول في خمس نقاط تعكس مكاسب إستراتيجية وازنة، جسدها بيان الأمين العام للأمم المتحدة الأخير، الذي دعا إلى الانسحاب من المنطقة العازلة والابتعاد عن التوتر وضمان مرونة حركة النقل الطرقي، والعودة إلى الوضع السابق؛ وتمثل في مجموعها نقطة انعطاف في مسار النزاع المفتعل. 1- طيلة حوالي 12 سنة، وتحديدا منذ أبريل 2005، آخر تقرير أممي تضمن موقفا حاسما يتجاوز تقرير الإشارة إلى وجود انتهاكات، كما كان يقع في التقارير اللاحقة في السنوات الموالية، إذ لم يصدر فيها موقف صريح وقوي من استفزازات البوليساريو في المنطقة العازلة الموجودة خلف الجدران الرملية الدفاعية، مثل ما صدر في ذلك التقرير، وتحولت التحركات العسكرية خلف الجدار إلى أمر واقع، تعززت بالاحتفالات العسكرية في تيفاريتي، وبلغت أوجها في زيارة الأمين العام السابق للأمم المتحدة في مارس من السنة الماضية إلى تندوف، ولقائه مع قيادة البوليساريو في المنطقة خلف الجدار، وهو ما اعتبر من قبل المغرب بمثابة استفزاز معاد يخل بواجب الحياد المفروض في الأمين العام، خاصة وقد تزامن ذلك مع تصريحاته المعادية للمغرب. وفي 19 أبريل 2005 نصت الفقرة 28 من تقرير الأمين العام على أن "مشاركة العسكريين المسلحين في المظاهرات بالشريط الفاصل من شأنها أن تشمل انتهاكا للاتفاق العسكري رقم 1، ولذلك يتعين على منظمي المظاهرات أن يحرصوا على عدم إدخال أي أسلحة إلى هذه المنطقة، وعلى عدم ارتداء أي متظاهر للباس عسكري أو شبه عسكري لإزالة كل مصدر محتمل للاستفزاز"، كما نصت الفقرة نفسها على أنه "ينبغي إعطاء إشعار مسبق بهذه التظاهرات للبعثة". ماذا يعني ذلك؟.. أن وجود البوليساريو بلباس عسكري كما هو الشأن اليوم في منطقة الكركرات استفزاز، وأن الوجود بصيغة مدنية مشروط بإشعار بعثة المينورسو، وأن المسؤولية عن المنطقة تعود إلى الأممالمتحدة، وهي مسؤولية نقلتها بلادنا إليها في 1991، وعندما لاحظت المملكة تسلل العناصر العسكرية للبوليساريو إليها وجهت رسالة رسمية في 3 شتنبر 1991 للأمين العام للأمم المتحدة، خافيير بيريز ديكويلار، تدعو إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة وتحتفظ بحق اتخاذ ما تراه مناسبا لحفظ السلم والأمن. ليس فقط ذلك، بل رفضت طلبات البوليساريو أن تتواجد قواتها في المنطقة الواقعة بين الجدران الرملية الدفاعية والحدود الدولية للمغرب على مستوى الصحراء، حسب ما يدل عليه تقرير الأمين العام ل19 ماي 1995، وأيضاً تقرير8 شتنبر 1995. ووجهت بلادنا قبل هذا التقرير رسالة رسمية في 23غشت 1995 لتأكيد ذلك، وحاولت البوليساريو تجديد طرح الأمر في منتصف 2000، مع الاقتصار على الساكنة المدنية لمخيمات تندوف، لكن دون جدوى. نحن إذن، إزاء تحول أنهى فترة "تجاهل للاستفزاز" عمرت طيلة 12 سنة، وكان لا بد من إنهائها على مستوى الأممالمتحدة؛ وذلك بصدور موقف صريح منها ينهي وضعية الانتهاك من قبل البوليساريو، ويضعها في موقف المخالف لقرارات الأممالمتحدة، وهو تحول جاء إثر الاتصال الملكي بالأمين العام للأمم المتحدة لطرح الموضوع والتفاعل السريع للأمم المتحدة، والتجاوب المغربي بالانسحاب الأحادي، ثم موقف عدد من دول مجموعة أصدقاء المغرب المثمن للموقف المغربي. 2- من ناحية ثانية، يبرز مكسب إستراتيجي آخر يتمثل في تعزيز الشرعية القانونية للجدران الرملية ودورها الدفاعي، ما يعني عودة الحياة إلى المقتضيات المرتبطة بها في الاتفاق العسكري، وهو موقف خالفته الأمانة العامة السابقة للأمم المتحدة، أما القيادة الأمميةالجديدة فقد تبنت موقفا مغايرا ينسجم مع قرار الأممالمتحدة 658 ل1990، الذي اعتمد بمقتضاه الاتفاق العسكري ل1988، والذي حدد مناطق الحظر العسكري. 3-أما المكسب الثالث فيهم إبطال الدعاية الانفصالية التي تقدم الجدرا، باعتبارها جدران "فصل عنصري"، وتغدي بذلك حملات تشهير في حق المغرب، عبر القيام بمقارنات ظالمة مع جدران أخرى، في حين هي جدران دفاعية للحفاظ على الأمن وجزء من خطة وقف إطلاق النار. لكن الجديد اليوم هو انكشاف إصرار البوليساريو على عرقلة حركة النقل والمرور عبرها، أي سعيها إلى جعلها جدار فصل؛ واتضح في المقابل موقف المغرب بدفاعه عن حرية التنقل عبرها ضدا على الدعاية الانفصالية. 4- ويضاف إلى ذلك مكسب إستراتيجي رابع يطرح على الأممالمتحدة مواجهة تعنت البوليساريو ومن يقف خلفها، إذ إن انتهاك وقف إطلاق النار والإصرار عليه وتعمد ترويج عناصر الاستفزاز الدعائية يمهد الطريق لقرار إدانة من مجلس الأمن المقبل، خاصة في ظل الاستعداد لمدارسة الموضوع ضمن تقرير الأمين العام في الشهر المقبل، وما يعنيه من طرح لمدى فعالية المكون العسكري لبعثة المينورسو عوض الارتهان لتداعيات موضوع عودة المكون المدني للبعثة. 5- من ناحية خامسة يبرز مكسب إستراتيجي آخر مرتبط بالاتحاد الأفريقي، إذ تم اختبار فعالية المرحلة الجديدة في إنهاء استغلال الاتحاد ضد المغرب، خاصة بعد أن بادرت الأممالمتحدة إلى اتخاذ موقف واضح من القضية، ما يجعل من مواصلة البوليساريو لاستفزازاته في وضعية من يهدد الأمن والسلم في القارة، وذلك بعد فشل استغلال موضوع الكركرات للتشويش على العودة. 6- ويفيد تضافر المكاسب الإستراتيجية الخمسة الآنفة ببروز إمكانية الخروج من الارتهان إلى إشكاليتي حقوق الإنسان والثروات الطبيعية، واستعادة المبادرة لمحاصرة الخصوم، الذين لم يجدوا من خيار سوى التهوين من قرار الانسحاب الأحادي واعتباره لبضعة أمتار، وأن القضية الجوهرية هي الاستفتاء، رغم أن الأممالمتحدة عبرت منذ بداية القرن عن استحالة تنظيمه، وهو ما يفسر تناقضات البوليساريو وارتباكها، وطرحها للموضوع، بعد أن أوهمت نفسها بقدرتها على الاستفزاز الذي انقلب ضدها. 7- كما تكشف ردود الفعل الدولية تقدير دور المغرب في مواجهة التحديات الأمنية بالمنطقة، ومسؤوليته في مواجهتها، وهو مكسب إستراتيجي سابع في منطقة مضطربة تعرف انتشارا لشبكات الإرهاب والجريمة، وأكسبت الجدران الرملية الدفاعية شرعية أكبر في تعزيز المواجهة لها. خلاصة القول أن موقف المغرب الإستراتيجي تعزز بهذه الخطوات المحسوبة منذ يوليوز الماضي، وستمكن من تعزيز المبادرة الهجومية للمغرب لحل هذا النزاع المفتعل.