أضحى التكتل خيارا استراتيجيا في عالم اليوم؛ بعدما تعزز حضور المنظمات الدولية كفاعل مؤثر في العلاقات الدولية؛ وداعم لمصالح الدول في أبعادها المختلفة داخليا وخارجيا.. يأتي انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي في ظرفية صعبة يعيشها النظام الإقليمي العربي؛ والذي تجسده الحالة المأزومة للمنطقة ولجامعة الدول العربية؛ وكذلك الأمر بالنسبة للاتحاد المغاربي الذي تعثّر؛ ولم تكن حصيلته لحد الآن في مستوى الإمكانيات المتوافرة أو تطلعات الشعوب المغاربية. يشكّل الانضمام تتويجا لمجهودات ومبادرات كبيرة قامت بها الدبلوماسية المغربية في العقود الأخيرة؛ وهو بداية ستحمل رهانات وأولويات اقتصادية مرتبطة بتعميق الشراكات والتعاون مع الدول الأعضاء؛ وتجاوز كلفة سياسة الكرسي الشاغر بالنسبة لقضية الصحراء المغربية؛ وكذا الدفع نحو انكباب الاتحاد على القضايا والأوليات الحقيقية للقارة في علاقتها بمكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار وتعميق التعاون وتشبيك المصالح بين الدول الأعضاء ومواجهة التهافت الخارجي الذي تتعرض له القارّة.. تزخر إفريقيا بإمكانيات بشرية وطبيعية وبتجارب ديمقراطية واعدة.. فقد شهدت العديد من الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة إصلاحات هامة؛ أسهمت في تحقيق الاستقرار والتداول السلمي على السلطة وفي رسم صورة مشرقة عن القارة؛ بعيدا عن الصور النمطية المتّصلة بالحروب والأمراض والمجاعات والانقلابات.. وهو ما كان له الفضل في حدوث تطور على مستوى تصاعد نسب النمّو؛ وتحسن ملحوظ في بيئة الاستثمار وتزايد الاهتمام الدولي بالتعاون مع دول القارة.. ثمّة سؤال هام يفرض نفسه بقوّة مع حدوث هذا الانضمام؛ ويتعلق الأمر حول ما إذا كان التوجه المغربي نحو إفريقيا سيتم على حساب تعزيز المسار المغاربي؟ إن هذا التّوجه هو امتداد لخيار استراتيجي يسعى المغرب من خلاله إلى بلورة نموذج واعد على مستوى التعاون جنوب - جنوب؛ يقوم على تبادل المصالح والتجارب؛ بعيدا عن كل أشكال الهيمنة والاستغلال؛ وهو خيار لا يمكن إلا أن يكون في صالح المغرب والدول الإفريقية والمنطقة المغاربية أيضا. لا يمكن بأي حال من الأحوال؛ النظر إلى انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي تنصّلا من التزاماته وخياراته المتصلة ببناء اتحاد مغاربي قويّ؛ فقد جاء في تصدير الدستور المغربي لعام 2011 والذي يعد جزءا من هذه الوثيقة؛ أن المغرب يؤكد ويلتزم ببناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي؛ إضافة إلى تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، وتعزيز روابط التعاون والتقارب والشّراكة مع بلدان الجوار الأورو- متوسطي؛ وتوسيع وتنويع علاقات الصداقة، والمبادلات الإنسانية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية مع كل بلدان العالم؛ وتقوية التعاون جنوب-جنوب.. كما أن الملك الذي يحظى بمهام دستورية محورية ورئيسية في مجال السياسة الخارجية وباعتباره الفاعل الأساسي في هذا الشأن؛ أكّد في كثير من المناسبات على أهمية وضرورة دعم البناء المغاربي باعتباره خيارا ناجحا لمواجهة مختلف التحديات التي تتهدّد المنطقة برمتها؛ ودعا غير ما مرّة إلى تشبيك العلاقات الاقتصادية بين الدول المغاربية وتجاوز الخلافات الضّيقة.. بالانفتاح على المستقبل. وخلال الجلسة الختامية لأشغال القمة الثامنة والعشرين لقادة دول ورؤساء حكومات بلدان الاتحاد الإفريقي التي احتضنها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مؤخرا؛ جاء في الخطاب الملكي الملقى أمام أعضاء الاتحاد؛ أن المغرب ظلّ مؤمنا بأن قوّته ينبغي أن تستمدّ من اندماجه في محيطه المغاربي؛ مشيرا إلى أن شعلة الاتحاد المغاربي انطفأت، وصارت معه المنطقة الأقلّ اندماجا في القارة الإفريقية، إن لم يكن في العالم أجمع، بفعل غياب الإيمان بمصير مشترك؛ وضعف المبادلات التجارية بين أطرافه.. على عكس ما تشهده الكثير من التنظيمات الإفريقية الفرعية في هذا الشأن.. ويضيف الخطاب أن عدم التحرّك؛ وأخذ العبرة من التجمعات الإفريقية المجاورة؛ والاستجابة للطموحات التي حملتها اتفاقية مراكش التأسيسية؛ سيعجّل حتما بحلّ الاتحاد المغاربي.. تعكس هذه الإشارات "التحذيرية" الصريحة؛ حرص المغرب على دعم هذا البناء الذي رافقته الكثير من الانتظارات والطموحات؛ خصوصا وأن هناك عددا من المقومات البشرية والثقافية والتاريخية والطبيعية.. التي تجعل المراهنة على هذا الخيار رابحة في عالم سمته التّكتل.. ومن تمّ؛ لا يمكن قراءة التوجه المغربي الأخير نحو تعزيز علاقاته الإفريقية من داخل الاتحاد؛ تراجعا عن البناء المغاربي كخيار استراتيجي؛ خصوصا وأن تعزيز هذا الصّرح سيضمن حضورا مغاربيا فاعلا داخل هذا التكتل الإفريقي؛ ويسمح بمنح المنطقة المغاربية مكانة وازنة داخل إفريقيا؛ بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي وإمكانياتها المتنوعة. إن التكتل هو خيار ملحّ تفرضه الإشكالات المنفلتة والعابرة للحدود في أبعادها المختلفة والتي تستدعي التعاون والتنسيق، ورغم الصعوبات المختلفة التي تواجه الاتحاد المغاربي في الوقت الراهن؛ والكلفة الاقتصادية القاسية التي يفرزها الجمود الذي يحيط بمؤسساته؛ فإن هذا الأخير يظلّ مطلبا استراتيجيا.. سيسمح حتما بمواجهة مختلف المخاطر والتحديات التي تواجه المنطقة مجتمعة (تمدد الإرهاب؛ والإشكالات المتصلة بالهجرة السرية؛ والتفاوض مع دول الضفة الشمالية من المتوسط..) وكسب رهانات التنمية في المنطقة.. * أستاذ العلاقات الدولية ورئيس منظمة العمل المغاربي https://web.facebook.com https://twitter.com/DrissLagrini