لم تتأسس في المغرب، حتى الآن، ثقافة وسلوك تقدير وتثمين ما يكتبه وما يقدّمه المفكرون والكتّاب والمحللون من آراء وأفكار واقتراحات وحلول. وكأن مجهودات هؤلاء لا تعدو أن تكون كلاما فارغا أو صيحات في واد. ومن هذا المنطلق، لا نتصور أن تكون هناك سياسة ناجحة وذات جدوى، ولا قرارات مؤثرة إذا لم تستند إلى أرضية وتصورات وأفكار واضحة تؤطرها وتوجهها وترسم لها الآفاق الآمنة والواعدة. وهذا ما يعجل، اليوم، بضرورة تطليق السلوكات التقليدية والنمطية في التعاطي مع الفكر والثقافة والإبداع. ويستنتج، من خلال قراءة مسارات وسياقات تطور الفعل والفاعل الثقافي في المغرب، أننا مررنا بأنماط وأصناف متعددة؛ بدءا من المثقف –القائد السياسي الذي انخرط في النضال الوطني وتفاعل بأشكال مختلفة مع معركة الاستقلال، إلى المثقف الوطني المعارض الذي سعى إلى تأمين شروط ممارسة ديمقراطية وبيئة سليمة لانتعاش حرية الفكر والإبداع والرأي على خلفية احتدام الصراع مع السلطة التي سعت منذ اللحظات الأولى إلى إبطال مفعول أي فعل ثقافي من شأنه أن يثبت على الأرض سلطة فعلية للفاعل الثقافي. ولاعتبارات سوسيولوجية وتاريخية وسياسية، شكلت البنيات الحزبية البوتقة التي انبثقت منها وتشكلت فيها الإرهاصات التأسيسية لممارسة ثقافية بديلة، كما أن هذه البنيات كانت مثل المشتل الذي ترعرعت فوق أرضه قيم وتقاليد وأسس المثقف العضوي بمفهوم "غرامشي" استنادا إلى السياق التاريخي ونوع الإيديولوجيا التي كانت مهيمنة، وطبيعة الخطاب الذي كان سائدا في تلك المرحلة. وكان الإعلام الحزبي يشكل مساحة لمناقشة قضايا حيوية مرتبطة بالسياسة والاقتصاد والدين والمجتمع ومفهوم الدولة والحرية والثورة الوطنية الديمقراطية ومفهوم الالتزام ودور الإبداع في التغيير والمرأة والشباب وبنية العقل العربي والحداثة والثورة الفلسطينية وحركات التحرر إلخ.. وكانت الأحزاب المحسوبة على ما عرف بالصف الديمقراطي واليساري تعتبر نفسها مسؤولة أخلاقيا وفكريا وتاريخيا للدفاع عن الحداثة والعقلانية والديمقراطية والحرية ودعم المثقفين والمبدعين. وشكل عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي مرحلة مفصلية في ازدهار خطاب ثقافي تقدمي بحمولة حداثية ومعارضة للخطاب الثقافي الرسمي، الذي كان يحرص على تكريس منظومة القيم والعلاقات الثقافية التي كانت تمثل الأسمنت الإيديولوجي للدولة. في مطلع التسعينيات، شهد الحقل السياسي المغربي حركة نشيطة ونقاشا منتجا وحركية لافتة، جسدتها عدة محطات ولحظات، كان أقواها وأشدها إثارة تقديم أحزاب المعارضة آنذاك لملتمس الرقابة، قصد حجب الثقة عن الحكومة. وشهدت المؤسسة التشريعية، وقتئذ، جلسات ماراطونية في الجدل والحجاج والنفي والتأكيد والمقارعة السياسية. وبدا المشهد شبيها آنذاك بمرجل يغلي وببحر متلاطم الأمواج يرغي ويزبد، وكادت حكومة عز الدين العراقي أن تسقط لولا مناورات واتصالات الدقائق الأخيرة. ولعل من تابع صراع المعارضة والأغلبية ومبارزاتهما، التي استمرت في اليوم الأخير من معركة ملتمس الرقابة إلى غاية الصباح، يستحضر عن كثب تلك الحماسة التي كانت تؤطر وتحرك "فرسان المعارضة"، وهم يعرضون حججهم وبراهينهم، ويزيلون ما علق بالواقع من مساحيق وتزييف وافتراءات. كنا نتصور ونحن نرصد هذا الفصل المتوتر من اشتغال السياسة في المغرب أن أمرا عظيما سيحصل، وأن الحكومات مهما بلغت من دهاء ومهارة في إخفاء الحقائق، فهي قابلة للسقوط، وأن من رضع حليب اليسار، ورفع ردحا من الزمن شعارات التحرير والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة وحقوق الإنسان هو صمام أمان الشعب والجسر الذي عبره تتم عملية التغيير الديمقراطي. ومما زاد في تكريس هذا التصور وتضخيمه هو تلك المعارك المشتركة التي خاضتها الأحزاب التي أسست الكتلة الديمقراطية وتوجتها بمجموعة من مذكرات المطالبة بالإصلاحات السياسية والدستورية، وأيضا النضالات التي خاضتها نقابتا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، إذ لم يكن يحدث أن يكون هناك شأن وطني أو قومي مهم دون أن تتحرك الأحزاب والنقابات، ولم يكن يدور في الحسبان أن يتعرض الشعب لضربات أو غارات اقتصادية أو حقوقية دون أن تسجل المواقف وتصدر البيانات، وتكتب الافتتاحيات. ولم يكن الفاعل الثقافي الذي كان يتقاسم المرجعية نفسها مع عدد من تلك الأحزاب، بالرغم من تباين ملحوظ في رؤيتها وفلسفتها، بعيدا عما كان يجري في الحقل السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ بل يمكن الجزم بأن حالة من التفاعل الجدلي الايجابي كانت موجودة بين عدد من المثقفين والمنابر وبين ما كان يعتمل من تطورات ومعارك وصراعات في أتون الواقع. المشكل هو أن الأحزاب التي راهن عليها عدد من المثقفين والمثقفات، وزرعت فيهم وفيهن مفاهيم المواطنة والوطنية والوطن والمجتمع العادل والدولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة والحداثة والعقلانية والابتكار والتغيير، وشحذتهم كي يدافعوا عن هذه المفاهيم والمبادئ ويحملوها أمانة في أعناقهم؛ لكنها -أي الأحزاب- فكت ارتباطها بهذه الشعارات، وهربت من النافذة، كي تتنصل من أي التزام نضالي أو أخلاقي من شأنه أن يحرجها، وحتى تكمل الدور وتؤكد تفوقها على ما كان يعرف بأحزاب الإدارة -وفق قاموسها- فإنها رفعت من إيقاع السرعة، وانطلقت جامحة مندفعة إلى ساحة حرب جديدة، لا اعتقال فيها ولا دم ولا تعذيب ولا جمر ولا رصاص.. إنها، باختصار، حرب التسلق الاجتماعي وتحسين الأوضاع المادية.. وتأسيسا على ذلك، لم تعد مكترثة سوى بالحفاظ على هامش ضيق للمناورة، ومجال محدود لممارسة وجود باهت على خريطة الفعل السياسي. إن استقالة الأحزاب وصمتها، في وقت يعرف فيه المجتمع جيلا جديدا من المشاكل والاحتقانات، وازتها استقالة وصمت المثقف-المؤسسة الذي شعر بعجز مزمن عن بلورة ممارسة ثقافية فاعلة وقادرة على التأطير والتأثير والتوجيه. وما بقي في الساحة جهود ومواقف واجتهادات فردية مشتتة؛ غير أن المتغيرات السياسية والتحولات البنيوية التي مست يقينيات ومسلمات كثيرة، على المستوى العالمي، وهبوب رياح التجديد الإيديولوجي والمراجعات الفكرية، عوامل جعلت التعاطي مع السلطة مسألة ممكنة، من دون أن يكون ذلك رديفا لسلوك انتهازي، بل أصبح مقبولاً أن تتبنى النخبة الثقافية مفاهيم وخطاب السلطة، فتحول جزء من المثقفين إلى خبراء يبيعون رأسمالهم الرمزي، أو يعرضونه على من يدفع أكثر. وبالتزامن مع اندلاع ما عرف بثورات الربيع العربي، أصيبت شريحة واسعة من المثقفين والمبدعين في مختلف الأجناس، بصدمة وذهول وصراعات وتناقضات غير مسبوقة، عندما وجدت نفسها أمام وقائع جديدة وموجات من التغيير غير واضحة، وإن كان عنوانها الأبرز محاربة الفساد والاستبداد والعمل على إسقاطهما، فانحازت عدة أصوات ثقافية إلى هذا المد الثوري الذي انتكس في أكثر من بلد ليتحول إلى مآس وتراجيديات ، وانفتحت لها شهية التغيير والتفكير بأفق جديد كشكل من أشكال تبني الشعارات التي رفعها الشارع؛ بيد أن هذه الأصوات سرعان ما انهارت أحلامها وانتكست رهاناتها أمام حقائق الواقع المؤلمة والعنيدة. وما يهم هو تحدي تجاوز المعيقات المتراكمة عبر عقود في الحقل الثقافي، ما دام أن المؤسسات القائمة والوصية تعرف بدورها تعثرات واختلالات على مستوى التدبير والرؤية والتوجهات والاختيارات. لذلك، لن يتم تجويد أيّ حوار حقيقي وشامل حول الثقافة المغربية بأبعادها المختلفة وروافدها المتعددة وهويتها المركبة، ما لم يتم تجاوز هذه المعيقات، من خلال تأهيل النخب الثقافية، لتلعب دورها التاريخي، في نشر قيم الحداثة والتفكير العقلاني والمتسامح، ومواجهة انزلاق المجتمع إلى التفكير المنغلق المبني على التبسيط والتعصب والتعليل السطحي، ومن ثم بلورة أجوبة ثقافية لمختلف الإشكاليات والظواهر التي تخترق مجتمعنا. ولعل التنظيمات الذاتية للمثقفين معنية، قبل غيرها، بعملية تأهيل النخب الثقافية؛ لأنها تشكل أداة هذا التأهيل وموضوعه في الوقت نفسها، والواقع أن معظم هذه التنظيمات الخاصة بالمثقفين تعاني من أعطابا وممارسات وتقاليد غير ديمقراطية، تجعلها موضوع تشكيك في إمكانية قيامها بعملية التأهيل هاته، ما لم تتخلص من حلقيّتها الضيقة ونرجسيتها المزمنة ، وممارساتها البيروقراطية. فلا يعقل أن نراهن على منظمة من أجل النهوض بوضعنا الثقافي العام، وهي غارقة في إعادة إنتاج الممارسات التي أضعفت قيمة الثقافة، وبخست المكانة الاعتبارية للمثقف المتردية أصلا، وأسهمت بصورة أو بأخرى في تمييع الفعل الثقافي وتتفيهه والتدمير الممنهج للمثقف. وانطلاقا من هذا الوضع، يتعين إقامة حوار صريح وجريء وشفاف مع الجهات الوصية على الثقافة، يشمل كل المستويات والقضايا، قصد إقامة علاقة واضحة ومتوازنة بين الدولة وبين المثقف في ضوء المتغيرات والتحولات الجارية وطنيا وجهويا وعربيا ودوليا؛ فالدولة، التي تسعى بجدية إلى ترسيخ القيم الديمقراطية والعقلانية داخل المجتمع والتمكين لها في العلاقات بين الأفراد وبين المؤسسات والبنيات المنتجة لشتى أنواع الخطابات، لا يمكن أن تمس باستقلالية المثقف المواطن أو تجهز على حريته.. وكل اجتهاد يعاكس هذه القاعدة أو ممارسة تزكي هذا الانحراف المحتمل لا يمكن اعتباره إلا إضعافا لتلك الدولة ولمؤسساتها؛ وهو ما يجعل الشعارات الهادفة إلى تسويق نموذج الدولة المواطنة التي ترفعها في هذا الإطار موضع استفهام وتشكيك. لذلك، علينا أن نقطع مع أي تردد في ترسيخ هذه القاعدة؛ لأن الثقافة، وبمنأى عن التعريفات والتحديدات السائدة، يمكن أن تشكل مصدر قوة وشرعية ومصداقية للدولة، وسندا للديمقراطية، وحاضنا للحرية والانفتاح والتسامح والاختلاف والإبداع الخلاق. في واقع الأمر، هناك مثقفون أصيبوا بخيبة أمل كبيرة وبإحباط شديد لاعتبارات كثيرة ومتداخلة، أبرزها التحولات الجذرية التي مست وظيفة المثقف وصورته في المجتمع، بحيث لم يعد يتمتع هذا المثقف بالقيمة الاعتبارية والرمزية نفسها التي كانت له في العقود الماضية، ولم يعد مصدر إغراء تجاه الدولة، وحتى تلك المكانة التي كان يحتلها في البنيات الحزبية ، لم تعد قائمة. فبدل أن ترتفع أسهم المثقف في بورصة السياسة، نجدها هوت إلى أدنى درجة، فيما يشبه عقوبة من السياسي تجاه المثقف. أما الدولة، بمكوناتها ودواليبها ووظائفها، فقد عمدت، بوعي أو بدون وعي ومنذ سنوات، إلى احتواء المثقف وابتلاعه، لا سيما المحسوب على اليسار أو المثقف المستقل، في مسعى حثيث إلى تحييد فعاليته وطمس إشعاعه. ربما أنجزت الدولة، عبر أذرعها الإيديولوجية ومؤسساتها العاملة في الحقل الثقافي، جزءاً من هذه الأجندة؛ فتحقق لها هدف قتل المثقف، من دون أن تدرك أنها بفعلها ذاك، ارتكبت خطأ جسيماً، حين استأصلت من المجتمع أدوات التفكير والإنتاج الرمزي.. وما حدث ويحدث في مجتمعاتنا في أكثر من منطقة، يثير بجدية وإلحاح انخراط الفاعلين الثقافيين في الديناميات السياسية والمجتمعية، لوضع حد لاستقالتهم غير المعلنة، والعمل على نفض غبار اليأس عن أفكارهم وتصوراتهم ومخيلاتهم وسجلاتهم الإبداعية، لإعادة الاعتبار إلى دور الكاتب-المثقف ورسالته ومكانته داخل الدولة والمجتمع والعمل على توفير شروط مصالحة جذرية بينه- أي المثقف- وبين محيطه ومختلف الذاكرات والمرجعيات والسياقات؛ لأن الكاتب والمبدع المواطن في النهاية، مهما كان الحقل الذي يهتم به، لا يكتب لمجرد إشباع رغبات ونزوات ذاتية، على الرغم من حضورها وأهميتها في سلم أولوياته، بل يكتب من أجل إحداث صدمات إيجابية في مختلف المؤسسات، ويكتب من أجل استفزاز المجتمع بشكل إيجابي، وتهيئته نفسياً وذهنياً، لتقبل القيم والأفكار المؤسسة للحداثة الفعلية، والديمقراطية الملموسة والمواطنة المنفتحة والعقلانية الكونية. *إعلامي وكاتب