عشرون عاما مرت على انطفاء المنارة الرشيدة للكوكبة الغيوانية: العربي باطما (07/02/1997- 07/02/2017)، الذي برحيله كادت جذوة الحياة تخبو في جسم هذه التجربة الغنائية التاريخية.. بعد الفاجعة المبكرة لبوجميع سنة 1974، لتزيدها كآبة الفقدان عتمة في عتمة...هكذا تحلو لنا صياغة هذه الافتتاحية على مقاس افتتاحية العربي باطما نفسه في آخر رسائله المحشوة في قنينة الألم الملقاة لتموجات اليم وتياراته نحو المرفأ الإنساني الأخير...إيذانا بميلاد سنة جديدة 1997: إذ صاح، قبل أسبوع فقط من رحيله: "مات أحمد، وانتهت السنة ". انطفأت الشمعة ذاتها لتفسح المجال لاستمرارية الروح الغيوانية التي أكد باطما مرارا على ديمومتها، ف"نحن أشخاص في الروح الغيوانية"، ليكون موته ميلاد محنة جديدة للمجموعة التي اختارت منذ البدء قياس عطاءاتها وتضحياتها السخية "دقة تابعة دقة"، في جدلية فريدة مع الجراحات المتتالية لهذا الشعب. أهو القدر؟ أم هي الضريبة القاسية لهذه المجموعة على حسن إصغائها لنبض حياة هؤلاء الكادحين والمضطهدين الذين صاغت آلامهم وأوجاعهم وكذا آهاتهم صياغة فنية استتب دفؤها بين "ضلوع" القادمين من شتى هوامش هذا المغرب العميق: درب مولاي شريف، كاريان بوعزة، كاريان الخليفة.... ليجدوا في الحي المحمدي الملجأ الآمن لهم كبسطاء فارين من عنف الهامس وقسوة النسيان، بنواحي سطات وإيمنتانوت، زاكورة، تارودانت، تزنيت، لينسجوا معا علاقات الألفة ضمن سياق تاريخي تميز باحتداد الصراع السياسي والاجتماعي بمغرب ما بعد 56، مع تباشير تشكل الوعي الطبقي لدى الفئات الشعبية الواسعة، وضمنها العمال وأسرهم التي آوتها دروب الأحياء الصناعية بالبيضاء، كالحي المحمدي... هذا الحي/الفضاء الخصب للانبعاث التاريخي لهذه الروح الغيوانية التي اعتصرها العربي زبدة مما ترسب في الذاكرة من رموز وعلامات حياته البدوية الأولى، الموغلة في ثنايا التراث الأدبي الشعبي الأصيل بمقوماته الأدائية والأداتية الموسيقية التي احتلت فيها الطبلة/الطمطم والبانجو الإفريقي والهجهوج (الكانبري/ السنتير) حجر الزاوية، ما رسخ في ذوات المجموعة جذوة غنائية استثنائية أهلتها لرشف رحيق الفن الشعبي بإتقان قل نظيره: هوارة، حماتشة، كناوة، أقلال، والطرب الأمازيغي....، لتصوغ بهذا المزج أروع متنفس فني لهؤلاء "المعذبين في الأرض". هكذا كان باطما يحسن الإصغاء إلى أوجاع وآلام هذا الشعب وهو يبني صرح هذه الصيحة الإنسانية/ الغيوانية التي امتدت من القحط إلى القحط، انطلاقا من هذه الوسيلة / الآلة الشعبية البسيطة (طمطم) التي التحم بها التحاما روحيا بدرايته البليغة وحنكته في استنطاق نقراتها المستبطنة لأسرار العلاقة بين هذه الأرض وإنسانها....سنده في ذلك غلظة صوته القادم من تلك العوالم البدوية السفلية / العميقة للمجتمع المغربي، في تماه مع إيقاع أبدع وأمهر في تكييفه مع صوفية وتاكناويت عبد الرحمان باكو، في التدرج عبر سلاليمه الموصلة إلى "الحال" Transes حيث تنكشف الذات، في تجرد مطلق، أمام عُريها "البريء" ذلك هو: الحالْ الحالْ يا أهل الحال *** واللي ما فيه الحالْ يذبالْ... تلكم هي الحكمة الصوفية التي وسمت الإيقاع الغيواني بامتياز، وبهذا تكون ناس الغيوان قد برأت ذمتها أمام من لم تستهوه هذه الروح في تشكلها المتدفق... ولك الآن من الوقت متسعه يا باطما لاستئناف السجال والتعبئة والإقناع الأبدي لرفيق غيابك محمد الرايسي* وأنتما تركنان الآن لهدوء المطلق في منأى تام عن هموم اليومي وانشغالاته المتزاحمة... وأنتما في خلوتكما تلك، قطعا ستتأملان بكل عمق دلالة السؤال الوجودي الذي صاغته الصرخة الغيوانية الأولى: حالي يا وعدي اليوم راه ادفعني ابغيت نوضع سؤال ونقول بلسان أهل الغيوان: يا بني الإنسان / علاش حنا عديان ؟ لاش لكروب... لاش الأحزان؟ لاش لكذوب.....لاش البهتان؟ لاش لحروب...لاش الطغيان؟ واحنا خاوا، احنا حباب، احنا جيران / يا بني الإنسان... • هي ذي الصرخة المدوية في فضاء مغرب السبعينيات من قرن مضى، والتي تلقفناها نحن خلسة، صبية وشبابا، جاهدين في استبطانها فرادى، حتى نحسن بعدئذ إعادتها /معاودتها وترديدها بصيغة الجمع عمت ربوع الوطن، في صورة مجموعات وفرق موسيقية حملت لواء الاحتجاج والتمرد على الجاهز، مصرة على الاحتذاء بالنمط الغيواني الجديد، مقدمة للانخراط في بوتقة الهم الجماعي الذي شكلت النغمة الغيوانية وتعبيراتها الموحية، سبيلا لتفجير مخزون الذاكرة والوجدان اللذين اكتويا بحرقة الأسئلة السياسية والثقافية والفكرية ضمن واقع متشابك التناقضات. فتفتقت المواهب والتحمت الأغاني بفرعيها الأمازيغي والدارجي المغربي (أوسمان، تواتون، ثذرين، إزنزارن، يني أمازيغ بنعمان، إريزام إصفضاون وإيميران وغيرها كثير... في بوتقة غنائية جديدة ناسجة معا نشيد المرحلة: ما هموني غير الرجال الى ضاعو *** لحيوط الى رابو كلها يبني دار ما هموني غير الصبيان مرضو وجاعو ***الغرس الى سقط نوضو انغرسو أشجار والحوض الى جف واسود نعناعو*** الصغير ف رجالنا يجنيه فاكية وثمار مصير وحدين عند أخرين ساهل تنزاعه*** واشعاع الشمس ما تخزنه لسوار(...) كولو ل هاذاك كولولو كولو للآخر كولولو كولو له إلى ما افهم دابا ليام اتوري لو.... • وليست صدفة أن تحتل الكلمة الشعرية المكانة الحساسة في هذا الانفجار الغنائي الرائع، لما اختزنته من دلالة التحدي لعناد واقع مجتمعي مطوق بكل الاحتمالات !!! ف"لا كلمة فوق كلمة الْغَضَنْفَرْ...". إنها الكلمة الزجلية البسيطة التي قال في حقها الفقيد باطما: "إذا كانت الفصحى تقول: أنا البحر في أعماقه الدر كامن، فإن الدارجة تقول: أنا الّدر في أعماقه البحر كامن"، ويضيف: "نحن لسنا موسيقيين، نحن ممثلون يحملون خطابا يهمهم أن يصل" ف: سبحان الله صيفنا ولى شتوة*** وارجع فصل الربيع ف البلدان خريف (....) جور الحكام زادنا تعب وقسوة*** لا راحة ولعباد ف نكد وتعسيف والحاكم كايصول كايقبض الرشوة***والشاهد كايدير ف الشهادة تحريف افهم المعنى وعيق واستافد واروى*** هذا سر لكنان ما رامه تصحيف غير أن الكلمة الغيوانية لا تقرأ إلا على ضوء الإيقاع النابع من أعماق تراث هذا الشعب في امتداده العمودي والأفقي، فقد "يفنى كل شيء ويبقى الإيقاع"، وهي الدلالة القوية التي اتخذتها تلك اللقطة الفريدة في فيلم "الحال" للمخرج البوعناني، حيث تعطل كل شيء عن الحركة ليفسح المجال أمام الإيقاع، ولترقص المجموعة رقصتها الغيوانية حد الذوبان والفناء في "الحال"، اللحظة الصوفية المشتهاة.... فبقدر ما كان باطما ملما بثراء تراثه الشعبي المحلي، كذلك كان في استلهامه لروائع الفن الغنائي الجميل على امتداد بلدان المغرب الكبير ولأصوات هوامشها المترامية الأطراف.. وفي خضم هذا الاطلاع الواسع يحضر الشيخ العنقا الجزائري كمعلمة ثقافية / تراثية أثثت مجال الغناء الشعبي لجزائر الثورة ومؤسس هذا الفن الجماهيري في صورته الحديثة والمعاصرة، فالشيخ "العنقا لم أعاصره، وإنما أحفظ الكثير من أغانيه". أليس في تبحر العربي باطما المتشعب الاهتمامات والمواهب والمنفتح على كل ضروب الفن والأدب... ما ولد لديه تلك العصامية النادرة التي عبرها عانق الحقول المعرفية المختلفة: قراءة وكتابة إبداعية ومحاكاة: القصة الغناء الزجل الرواية السينما التأليف الأدبي....الخ، فعلى مدار مسيرته الإبداعية التي انفلتت من جحيم الثبات "البارمينيدي" ظل باطما يكابد، يعاند ويقاوم اليأس والإحباط بنفس الطموح والصمود الذي قاوم به المرض اللعين في أواخر أيامه، كل ذلك ليودعنا خزانة حياته هذا الإنتاج الفني وهذا الركام الأدبي الهام، كرسالة عظمى ستلقن جيلا بعد جيل علاقة الفن بالحياة، رسالة على القادمين استنطاق ألغاز بواطنها انطلاقا من حرقة السؤال الذي أصر باطما على طرحه بلغة شعبية وتراثية أصيلة تكثف من المعاني والدلالات ما عجزت معاجم اليوم عن فك ألغازه واختراق طلاسمه، من قبيل ما تزخر به أغنية: فين غادي بيا؟ يا من هو باز ف لقفاز يا من هو فروج عل الكندرة وانشر اجناحو يا من هو تليس اعطى ظهرو لتغراز عمرني ما ريت لغزال تمشي بلمهماز وُ فراخ الخيل عادو سراحو عمرني ما ريت النخلة تعطي حب الغاز بعد الثْمر وتبلاعو يا من هو ديب ف لغياب كثر صياحو ...... أنا ما نسيت حياتي يا ناس المحبة أنا ما نسيت ناسي خاية هدي نكبة.... وصولا أحد مقاطع أغنية "نرجاك أن ": نرجاكْ انا إلى مشيتْ فُكْني من عْبادكْ إلى تْريدْ آيْ قد زايدْ ف الهمْ وَاوْ مَا كْواني حرّ المُوتْ.. ألا يحق لنا الإقرار بأن باطما، في ألمه ورحيله، بمعية رفيقه الناقد المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس في "رحلة في مجاهل موت عابر" قد سلكا معا مسلك العظماء في إبداعهما لمجال أدبي جديد سيعرف بعدهما ب"أدب الموت" بكل مميزاته الفنية وخصائصه الإبداعية التي عادة ما تكون من نصيب الملسوعين، على حين غرة، بحتمية الموت... !!! عجيب كيف صاغا معا أروع صور فنية للمعايشة الشجاعة والأليفة للحظات الألم المنبعثة من عمق الإحساس بالموت المحض... فعلى ضوء حبكة سيرة "الرحيل" وبعدها "الألم" مع تفاصيل رحلة ونوس، تتراءى لنا بجلاء أعظم مقومات الأدب ذاك... المقومات نفسها التي أملت على باطما تتويج الرحيل بالألم وليس العكس !... هكذا يرحل باطما ليظل الألم يمزق أحشاءنا ويسكن جراحاتنا التي ستظل تنزف دما / شهادة على درب الخلق والإبداع، يرحل...بعد أن سلم المشعل وأمنه في أيدي الأجيال القادمة لإيقاد الشموع "بدل لعن الظلام"، لأنه القائل: "أظن أن باحثا مغربيا في عام 2000 أو 2500 سيهيء أطروحته عن الأدب الشعبي ويتحدث عن الفترة الممتدة ما بين 70 و90 دون الوقوف عند ظاهرة ناس الغيوان ستكون أطروحته ناقصة بالتأكيد". قالها ورحل مرددا: أنا راني مشيت الهوْل الداني والديا واحبابي ما سخاو بيا، بحْر الغيوان مادخلتو بلعاني... هكذا نقف اليوم وقفة إجلال وإكبار أمام روح هذا الفنان العظيم، ومعه روح كل العابرين: بوجميع وقيروش عبد الرحمان باكو(الغيوان) ومحمد باطما والشريف الأمراني ومحمد السوسدي (لمشاهب) محمود السعدي (جيلالة) مصطفى منافع (تكدة) وعموري امبارك (أسمان)... لتظل أيدينا على أفئدتنا تنشد الأمل والرجاء في من بقي من أقطاب الغيوان لاستئناف دورهم في ربط حلقات السلسلة الغيوانية في ما بين الأجيال، حتى وإن رحل الرواد، فإن الروح الغيوانية ستظل خالدة منفلتة على الدوام من مخالب العدم والزوال.....