وسائل الإعلام لها وظائف عديدة، من ضمنها الإخبار والتربية والتثقيف والترفيه. والإذاعة جزء لا يتجزأ من هذه الوسائل الإعلامية. هدفنا في هذه السطور أن نقود تفكيرا نقديا حول الأدوار الجديدة للإذاعة في زمن الديجيتال ميديا. لماذا يتعين على الإذاعة بالعالم العربي في 2017، وفي أفق السنوات المقبلة، أن تجدد نفسها وترقمن أدواتها وطرائق اشتغالها وبثها؟ كيف لها أن تضمن البقاء وتفلت من كارثة الانقراض في زمن الرقمنة العابرة للقارات؟ هل رقمنة الإذاعة ترف فكري أو حتمية باتت تفرضها الإكراهات المهنية في ميدان الإعلام والاتصال؟ ما حجم التحديات المفروضة على الإذاعة في زمن الثورة التكنولوجية والتفاعلية اللامحدودة؟ سوف ننطلق بداية من مثال بسيط نجيب من خلاله على جزء من الأسئلة المطروحة أعلاه. الترفيه لا يكفي حتى نحكم على إذاعة ما بأنها ناجحة ومستقطبة لجماهير عريضة، في المدن والقرى، على حد السواء. إن مسؤولية الإذاعة حاليا أن ترتقي بذوق المستمع وتربطه بقضايا العصر (السلم الاجتماعي، التصدي للإرهاب، مكافحة العنصرية، نشر القيم الإيجابية في المجتمع، مناهضة العنف...). هنا، نتحدث بشكل مباشر ودون مبالغة عمّا أسميه "التنوير الإذاعي". كفى من الإغراق في الترفيه! كفى من تسطيح ثقافة المستمع! كفى من التبسيط الهائل المؤدي إلى التمييع! إن الدور التنويري للإذاعة (الذي ينضاف طبعا إلى وظائفها الأصلية: الإخبار، الترفيه، التربية، التثقيف) يساوي المساهمة الفعالة في التنمية المواطنة. كل ذلك ممتاز. نتفق مع ذلك. لكن، لنفتح هنا قوسين ونتساءل: ما سلطة الإذاعة (في بثها الكلاسيكي أو الرقمي) وما سر جاذبيتها؟ الأجوبة عن هذا التساؤل تتناسل بشكل لانهائي. الإذاعة تصل إلى جميع فئات المجتمع. الإذاعة حاضرة في كل مكان وزمان. إنها في البيت، في السيارة، في مكان العمل، في نادي الرياضة، في القرية، في المدينة... في كل مكان. الإذاعة من وسائل الاتصال الجماهيري الأكثر شعبية. إن للإذاعة جاذبية لا تقاوم، فخاصيتها أنها تقدم للمستمع منتجات وخدمات صوتية. إن الصوت يداعب الخيال قبل الكلمة. إنه يحيل على السمع. والسمع حاسة مركزية. يقول الله تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا". انظر إلى هذه الآية الكريمة. تأملها. غص في أعماقها. السمع أولا. قبل البصر. قبل الصورة. قبل الأيقونة... هل توافقني الرأي؟ الحديث ذو شجون... الإذاعة أيضا وسيلة لتوحيد المجتمعات وتعزيز الحوار الإيجابي من أجل إحداث التغيير. إن التعددية اللغوية الموجودة مثلا في الإذاعات الحرة بالمغرب لبرهان ساطع على فكرة التوحيد المجتمعي الذي تخدمه الإذاعة (في إطار الاختلاف طبعا). دائما، في صلب الإذاعات الحرة بالمغرب، يمكن أن نلاحظ وفرة للبرامج الحوارية الشبابية التي من ميزاتها أنها تجس نبض الشباب وتعكس أحلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، دون أن ننسى تصورهم للتنمية المواطنة. ماذا ننتظر من الإذاعات في العالم العربي، وفي المغرب خصوصا، في 2017 وما بعدها من السنوات؟ إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع. التركيز في البرامج الحوارية، وغيرها، على قصص النجاح. إننا نحتاج في زمن تفاقمت فيه الكراهية والعنصرية والحقد والمآسي التي تتناقلها دون توقف كل وسائل الميديا... نحتاج إلى إبراز عدد لا متناه من قصص النجاح عبر منابر الإعلام، سواء كان هذا الأخير بصريا، سمعيا، مكتوبا أو رقميا تفاعليا. إن الصراع الآن في مجرة الإعلام ينطلق من البحث عن التميز في الديجيتال ميديا. إن الصحف الرائدة مثلا تتباهى بعدد زائريها ومدة بقائهم في منصاتها الإخبارية. لقد سئمنا من أخبار القتل والاغتصاب والعنف الزوجي وانهيار الاقتصاد والأزمات السياسية والقلاقل و"داعش" والإرهاب والتدمير اللامحدود للقيم باسم الحرية والانفتاح. إن حاجتنا إلى قصص النجاح في الديجيتال ميديا، مثلا، أمر مستعجل. لا بد أن ندرك أيضا أن الفيديو أصبح نجم السنوات الحالية بالنسبة للعمل الاعلامي ككل. إنه يحتل المركز الاول في اهتمام الشبكات الاجتماعية التي تسعى إلى دعم محتواه والتوسع في البث المباشر الذي بدأه فيسبوك مؤخرا. حضور قصص النجاح في الإعلام له أثر إيجابي في تحريك الهمم، والخروج بالمواطنين، الشباب خصوصا، من دوامة الارهاب والادمان واليأس من الحياة. إن من أخلاقيات الاعلامي المعاصر ألاّ يبحث دوما عن الشهرة وعن السبق الصحافي ببيع هموم ومعاناة الناس. وظيفة الإعلامي النبيل، إلى جانب الإخبار، أن يفتح آفاقا للأمل. هنا نتحدث حتما عن التنوير... لنعد الآن إلى الموضوع الرئيس لهذا المقال: الإذاعة. إن تكيف الإذاعة مع الثورة الرقمية أمر ملح ومستعجل. إن الرقمنة ليست داء أو وبالا على الإذاعة، بأي حال من الأحوال. إنها لا تهدد الإذاعة في بثها الكلاسيكي، بل تسمح لها بأن تصل إلى شرائح واسعة من المجتمع. لننتبه الآن إلى مسألة جوهرية. المطلوب من الإذاعة أن تطور وترقمن تقنياتها، في الخضم المتلاطم للثورة الرقمية، وما تحيل إليه هذه الأخيرة من التكاثر اللامحدود للمعلومات، الحقائق (والشائعات على وجه الخصوص). إن المسؤولية الملقاة على كاهل الإذاعة الآن جسيمة جدا. لماذا؟ لأن هناك ثلاثة تحديات كبرى تواجهها الإذاعة في 2017 (بالمغرب وغيره من أقطار العالم العربي)؛ أولا غربلة المعلومات لضمان جودة الخدمات والبرامج. ثانيا تحدي عدم السقوط في السطحية والاستهلاك. ثالثا تحدي المنافسة الشرسة وإثبات الذات في مجرة إذاعية بها عدد هائل من المنابر والأصوات. قلنا في ما سبق إن الإذاعة مجس لأحلام الشباب ومشاريعهم وانطباعاتهم وآمالهم في التغيير. هنا، نريد أن نضيف فكرة جوهرية. في زمن شبكات التواصل الاجتماعي هناك مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق الإذاعة. ما هي؟ التناغم مع الضجة الاعلامية الالكترونية المثارة حول القضايا العالمية الآنية: الإرهاب المادي واللامادي، السلم الاجتماعي العابر للقارات، الأزمات الاقتصادية، مناهضة الميز والعنف، ترسيخ قيم العدالة والمساواة بين بني البشر أينما كانوا (بصرف النظر عن العرق أو الدين أو اللون). نحن نعتقد بل نجزم أن هناك تحديات أخرى تواجه الإذاعة في زمن الديجيتال ميديا: 1- تحدي التحيين المتواصل للمضامين وتقنيات الإنتاج. 2- تحدي مضاعفة العمل وتأمين التكوين المستمر للكوادر.3- تحدي الرفع من الجودة المرتبط بالانفتاح على آخر التطورات التكنوإعلامية والتعددية اللغوية (على مستوي الاستعمال والإنتاج). الإذاعة في 2017 وفي أفق السنوات والعشريات المقبلة تجد نفسها أمام عدد لانهائي من التحديات: التوجه المتزايد نحو الرقمنة ليس خيارا أو ترفا فكريا. إنه ضرورة للبقاء وعدم الانقراض. إذاعة ترقمن نفسها: تكون أو لا تكون. إذاعة مرتبطة بمنصات التواصل الرقمي تكون أو لا تكون. إن التأثير الإذاعي الذي نجده في البرامج الحوارية الشبابية (على سبيل المثال) مطلوب جدا، وهو يدخل الإذاعة في ما أسميه شخصيا: "تواصل الأعماق". لكن، لنتوقف لحظة. لا مجال هنا للمبالغة في هذا التأثير. لماذا؟ بكل بساطة، لضمان الحد الأدنى من الموضوعية المهنية... ود في نهاية هذا المقال أن نوجه رسالة مفتوحة إلى جميع الإذاعات المغربية: نحن نحتاج إلى المزيد من البرامج الحوارية الهادفة التي تركز على ايجاد حلول عملية للمشاكل الأسرية. من فضلكم، كفى من التنميط! كفى من البرامج المستهلكة (حول تيمات المخدرات والعنف والجنس...)! كفى من تكرار المواضيع ذاتها بغاية الربح المادي والتزاما بالعقود المبرمة مع وكالات الاشهار! نحتاج من إعلامنا الإذاعي... من إعلامنا بصفة عامة إلى مزيد من المضامين الهادفة... إلى إعلام إذاعي للأخبار الطيبة... إلى إعلام يحفل بقصص الأمل والحب والنجاح.