في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، تناول المفكر المغربي محمد سبيلا دور المثقفين في الساحة الثقافية المغربية والعربية، وفسر أسباب غيابهم عن التفاعل مع الواقع والأحداث التي تعيشها المنطقة في السنوات الأخيرة، وتحدث بإسهاب عن المثقف الإسلامي وواقع الفكر الإسلامي بعد الربيع العربي، والفرق بين البنية الفكرية الحداثية والبنية الفكرية الإسلامية. كما خصص جزء من الحوار للحديث عن الحداثة، وهل انغمرنا فعلا في المشروع الحداثي أم ما زلنا نعيش مرحلة يمكن أن نسميها بما قبل الحداثة؟ أول ما أستحضر، الأستاذ محمد سبيلا، حضور المثقف في المجتمع والحقل السياسي. في السابق كان المثقف يؤطر رؤية المجتمع انطلاقا من فكره وكتاباته لكن اليوم نلاحظ غياب المثقف عن التفاعل مع الأحداث الأخيرة.. بماذا تفسرون ذلك؟ يبدو أنه حصل نوع من التحول الكبير في خريطة المثقفين؛ وذلك لأسباب عدة، أهمها توسع دائرة المثقفين؛ حيث بدأ الحقل يشمل الإعلاميين والخبراء والمثقفين، ثم التحول الذي حدث على المستوى العربي والإسلامي، من غياب الصورة المثالية للمثقف التي كانت حاضرة في ذهننا والراجعة إلى مرحلة القومية الاشتراكية ومراحل التحرر الوطني بما حملته من فكر وتحرر وتطور، حفزت مجموعة من المثقفين على حمل الرسالة التحررية والتقدمية. لذلك كان الحديث عن المثقف العضوي الفاعل الذي يمارس الفكر من جهة، والفعل السياسي من جهة أخرى، عبر الانتماء للأحزاب وتأطير التجمعات النقابية والسياسية. هذا النموذج عايشناه وأنا شخصيا عشته خلال هذه الفترة، لكن بعد ذلك حدث تحول من إيديولوجية التحرر الوطني إلى الإيديولوجية الإسلامية، مع بداية الثورة الإيرانية وهزيمة 67؛ إذ كان هناك نوع من الإحباط وإحساس بهزيمة الفكر القومي والمشاعر القومية، أصبح يقابله نمو للحركات الإسلامية، منها الإخوان المسلمون. مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية، بدأ انكماش المثقف وتراجعه عن وظائفه السابقة، واقتصار دوره على المجال الفكري، واعتبار أن وظيفته الأساسية هي التنوير الفكري لا أقل ولا أكثر. مع هذه المحددات التاريخية الكبرى، بدأ المثقف العربي والمغربي يشعر بنوع من التعارض بين وظيفته الإيديولوجية ووظيفته الفكرية. فمع توسع الجامعات والتنافس في الأداء الوظيفي في التعليم، بدأ أساتذة الجامعات يشعرون بأنه لم يعد ممكنا الجمع بين النشاط العملي الحزبي بما يتطلبه من اجتماعات وبلاغة جماهرية وخطب، وبين متطلبات المهنة والتنافس المهني والأداء الجامعي، ثم إن العمل الفكري والجامعي يتطلب تفرغا كاملا واجتهادا وتتبعا للنظريات والتطورات الكبرى، وخاصة بالنسبة لأساتذة العلوم الإنسانية. لذلك نجد فعلا أن تدخل المثقفين لم يعد بالشكل الذي كان سابقا؛ فالبعض يتحدث عن استقالة المثقف أو موت المثقف، ولكن هي تحولات تاريخية ومهنية أدت إلى نوع من إعادة النظر في كيفية الأداء لا أقل ولا أكثر. هل هذه العوامل التي ذكرتموها كانت سببا في ظهور أشخاص يسمون أنفسهم محللين استراتيجيين في الفضائيات والإذاعات والجرائد؟ هو سبب ونتيجة، أنا أشرت في البداية إلى توسع خريطة المثقفين التي أصبحت تشمل كذلك الإعلاميين بمختلف تخصصاتهم، السمعية والبصرية والمكتوبة. ومع تكاثر الفضائيات وتوسعها، بدأ نوع من الطلب والحاجة التلفزية والالكترونية إلى هذا النوع من المعلقين والمتخصصين في القضايا الجيوستراتيجية أو الذين يتحدثون بمعطيات علمية، لكن للأسف هناك فئات واسعة أصبحت تستغل غياب المثقف الحقيقي وتنسب لنفسها هذه الصفات، وهو ما أدى إلى نوع من التسيب في هذا الميدان الذي ألفى بدون ضوابط. بعد الربيع العربي أصبح التوجه الإسلامي والإيديولوجية الإسلامية يفرضان نفسيهما في الساحة على حساب اليسار. في نظركم، هل يستطيع الإسلاميون لعب الدور الذي كان يلعبه اليسار في ما مضى وينتجوا لنا مثقفا عضويا ذا حس نقدي؟ أولا يجب أن ندرك أن البنية العقدية الفكرية تختلف؛ فالبنية الفكرية الحداثية مبدئيا هي بنية فكرية نقدية تقوم على النقد وعلى التساؤل وعلى مراجعة الفرضيات. في المقابل، فمجال الفكر الإسلامي مازالت تطغى عليه ما يمكن تسميته بالنسقيات والتصورات الكبرى التي يرثها جيل عن جيل، والتي عاشت مخاضات دفاعية منذ عدة قرون. الاختراقات الحقيقية كانت من طرف المثقفين الحداثيين الكبار، مثل الجابري، العروي، اركون، أبو زيد... لكن في مجال الفكر الإسلامي يبدو هناك نوع من التكرار والترديد والاجترار، على الرغم من أن باب الاجتهاد أصبح مفتوحا. وفي رأيي، هذا راجع إلى طغيان الوظيفة الدفاعية على البنية الفكرية الإسلامية، عوض الوظيفة النقدية. إلى حدود الساعة، ليس هناك اختراقات وتنظيرات فكرية كبرى عند الإسلاميين؛ لأن التنظيرات الفكرية الكبرى تتطلب أولا الإلمام بمعطيات العلوم الإنسانية الكونية الحديثة، وعدم حظرها واعتبارها غزوا فكريا وثقافيا، وإذا تم تجاوز هذا العائق ينبغي الانتقال إلى مرحلة التطبيق حتى لو كانت في إطار حمائي ودفاعي ملقح بحس نقدي، لكن الحس النقدي لا يمكن أن يأتي من الثقافة ذاتها، خصوصا إن كانت تميل إلى تمجيد ذاتها والقول بأنها أحسن ثقافة. وفي رأيي، محددات الإبداعات الثقافية الكبرى تحتاج إلى التأطير والتفسير الثقافي، وكذا تأويل ثقافي مستمد من هذا التراث الذي يفترض الدفاع عنه والإعلاء من شأنه لا عن طريق التمجيد الذاتي، بل عن طريق التجديد والإبداع والانفتاح الكوني. هناك من يعتبر أن الخطاب السياسي في الآونة الأخيرة يعيش انحدارا يسميه البعض ب"الشعبوية"، كيف تقيمون هذا الخطاب؟ الخطاب يعكس التحولات الاجتماعية التي انخرط فيها مجتمعنا واندماجه في السوق الرأسمالية العالمية وفي التقنية العالمية بمختلف مستوياتها، والتحولات التي حدثت في الخطاب السياسي تعود، في رأيي، إلى منسوب الحرية الذي انتزعه الحقل السياسي، هذا ما ساهم في بروز اجتهادات لفظية وخطابية. سابقا في عصرنا، لم نكن نتصور رئيس وزراء بهذه الحيوية والحرية والطلاقة، المسألة أكبر من إرادة فرد، بل هناك تحولات عالمية لحقوق الإنسان، هناك إرادة دولية، تحت قيادة الغرب لاكتساب مقادير أكبر من الحرية، ولذلك نحن لانزال منبهرين بها، سواء لدى الفاعلين السياسيين أو لدى الأفراد. وهذا ما يفسر التفاعلات الحادة بين الأحزاب والأشخاص، وحدة الخطاب السياسي في معجمه وبلاغته وآلياته. قد يسميه البعض بالشعبوي لكن أنا اعتبره أصبح خطابا تداوليا، يشمل فئات عريضة من المجتمع. اليوم نتحدث عن ملايين الأشخاص الذين يستقون الأخبار السياسية والشأن العام، ما يعني أن فئات واسعة أصبحت تنخرط في الحقل السياسي وتبدي رأيها، وأعتقد أن هذه تحولات نوعية. اعتبرتم في مجموعة من المقالات وفي كتابكم "للسياسة بالسياسة" أن الأحزاب السياسية المغربية هي امتداد للزاوية، كيف ذلك وعلى ماذا بنيتم هذا التصور؟ مبدئيا الحزب هو مؤسسة عصرية ونتاج لتحديث المجتمع، والحزب لا يعبّر عن عرق أو دين أو فئة اجتماعية، بقدر ما هو تعبير عن توجه سياسي عام، فيه العرقي والديني ومختلف العناصر. لكن عندما ينشأ حزب حداثي في مجتمع تقليدي، فهو يحمل معه الموروث والبنية الاجتماعية والفكرية لذلك المجتمع، وزعيم الحزب ينظر إليه كأنه شيخ الزاوية. السوسيولوجيون بحثوا في موضوع التماثلات بين بنية الزاوية والحزب، وإذا كنا نقول عن مجتمعنا إنه يعيش مخاضا عسيرا بين التقليد والتحديث، فكذلك المؤسسات السياسية هي في تفاعل وصراع بين ما هو تقليدي وحداثي، والدينامية الداخلية للحزب تحمل معها موروثا تقليديا ضخما. لذلك عندما تأخذ حتى المناضل الحزبي كنموذج يمكن أن تلاحظ في سلوكه ولغته تعايشا بين تصورات تقليدية وأخرى حداثية. قلتم في مناسبات متعددة بأنكم كنتم تائهين بين التيارات الفلسفية الحديثة، كيف قادتكم السياحة الفكرية-حسب تعبيركم في حوار سابق-إلى التنظير في مفهوم الحداثة؟ القلق الفكري الذي يصاحب المرء منذ طفولته وشبابه، والذي ينبئ ويشي بعدم الاكتفاء بالتفسيرات والتأويلات المتداولة، يدفع المرء إلى التساؤل، وربما هذه التساؤلات الحادة التي تداهم المرء في شبابه وطفولته في النهاية قد توجهه في اتجاه معين؛ إما في اتجاه اليقين المطلق أو في اتجاه استمرار التساؤل. أنا نتاج للتعليم الحر بالمغرب الذي أنشأته الحركة الوطنية، وهو تعليم غير تقليدي أو فيه جزء من التقليدي وجزء من العصري، وهذا محدد أساسي يجعل الطالب منفتحا على الجديد وأيضا له قدم في التراث. بعد التوجه العلمي الذي توجهته في الثانوي وجدت ضالتي في الفلسفة، وتبين لي من خلال دراستي أن الفلسفة هي التي يمكن أن تجيب عن العديد من التساؤلات الكونية والمجتمعية والنفسية، وفي الفلسفة ذاتها تهت بين المذاهب والاتجاهات، لذلك قلت إني قمت بسياحة فكرية من الوجودية إلى التحليل النفسي ثم البنيوية التفكيكية وما إلى ذلك، بهدف الإجابة عن العديد من التساؤلات. وأذكر أنه خلال هذه السياحة الفكرية تبين لي هذا المفتاح "مفهوم الحداثة"، الذي كان بالنسبة لي تحولا نوعيا ومفصليا ساعدني على تصنيف ما أقرأ وما أفكر فيه، وكذلك منحني وسيلة أو مفهوما مفتاحيا، إن صح التعبير. أستاذ، اشتغلتم على مفهوم الحداثة لعقود، وأكيد أن اشتغالكم على هذا المفهوم جعلكم تخرجون بخلاصات بخصوصه. هو فعلا هناك التباسات كبيرة تحيط بهذا المفهوم؛ أولها التباسات لغوية، عندما نقول بالعربية الحداثة فنحن نشير إلى الحدث بمعنيين (événement) والطفولة، في حين إن الحداثة هي مفهوم خاص يشير إلى جملة من التحولات الكونية حدثت في الغرب. والمصطلح في حد ذاته مصطلح غربي توصل إليه المفكرون الغربيون لاستجماع السمات العامة لما حدث من تحول في الغرب. فالحداثة مفهوم شامل وحضاري، بمعنى يشمل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، وعلى كل المستويات، أنا شخصيا بعد طول ممارسة واحتكاك نظمت هذه المستويات في ثلاث: المستوى الأول هو المستوى التقني؛ أي الحداثة التقنية ابتداء من أبسط مظاهرها إلى أعقدها. المستوى الثاني هو الحداثة التنظيمية المتعلقة بتنظيم المجتمع، والمتعلقة بالسياسة. والحداثة التقنية تلامس الحداثة التنظيمية، الاقتصاد مثلا جزء منه في التقنية وجزء آخر في الجانب التنظيمي، السياسي والإداري. المستوى الثالث هو الحداثة الثقافية أو الفكرية، وأنا أميل إلى استعمال الفكري لأن الثقافي يحيل على الجانب الكمي للثقافة والمعلومات، لكن الجانب الفكري يتعلق بالجانب العقلي. فالحداثة على المستوى الفكري تعنى بتحديد تصور للعالم، وربما هو أعمق مستوى من مستويات الحداثة وأصعبها. بما أننا نتحدث عن الحداثة، في نظركم أين نحن منها؟ الحداثة نشأت في الغرب وهناك تباينات في التأريخ لها، البعض اعتبرها تعود إلى القرن 15، ويمكن القول إنها تبلورت في القرن الثامن عشر نظرا للتحولات الكبرى التي عرفتها في جانبيها الفكري والتنظيمي، لكن في مرحلة معينة أصبحت الحداثة قوة فكرية وسياسية واقتصادية، ولذلك تفرعت وانتشرت في العالم. وكان الاستعمار مظهرا من مظاهر الحداثة؛ إذ كان نتيجة للتطور التقني والعلمي الذي بلغته أوروبا، والذي ولد لديها قوة سياسية تحولت إلى رغبة في دمج أسواق جديدة، سواء كأسواق للبيع أو للاستهلاك أو كأسواق للتزود بالمواد الأولية. في هذه المرحلة أي القرن 19، بدأ التوسع الأوروبي وتم احتلال الجزائر وتونس والمغرب. المغرب حاول وقاوم لكن في النهاية انهزم، هذا الانهزام كان مدخلا في سيرورة الحداثة والتحديث التقني وتنظيم الشوارع والإدارة، وبدأت بوادر التحديث الفكري مع الحفاظ على التقليد. وبدأ المغاربة يكتشفون التليفون والتلغراف والسيارة... كانت هذه الوسائل تثير الرهبة وأحدثت، بطبيعة الحال، صدمة في نفوس المغاربة، مثلا أنا أذكر كيف ونحن صغار كنا نتجمع حول المذياع في بداية ظهوره وكانت والدتي تقول: "اسمعوا ولا تتكلموا لأنهم سيسمعونكم". الحداثة التقنية أحدثت صدمة في الوعي والخيال وولدت متخيلا أسطوريا، هذه الصدمة جعلت المجتمع التقليدي ينبهر بالحداثة ويعطيها تفسيرات أسطورية. بعض الفقهاء في تلك الفترة اعتبروا أن هذه المظاهر من مظاهر الساعة. هذه السيرورة جعلت مجتمعنا سائرا في مخاض الحداثة، فقد انتقلنا من الحداثة التقنية إلى الحداثة التنظيمية؛ لدينا برلمان ولدينا دستور. في ما يخص نظام الحكم، زاوجنا بين النظام الحديث وبين النظام القديم، وأيضا ظهرت تفاعلات مصاحبة على المستوى الفكري. تحدثتم عن المستوى التقني والتنظيمي للحداثة وقلتم إن الدول المستحدثة لم تجد صعوبة كبيرة في تحديث هياكلها ودواليبها، لكن على المستوى الفكري هل ينطبق عليه ما ينطبق على المستوى التقني والتنظيمي أم هناك تخوف من هذا النوع من التحديث؟ إذا كانت الحداثة بكل مستوياتها تحدث صدمة فيها انبهار وتخوف، فهذه الصدمة تتزايد من مستوى إلى آخر، وأخص بالذكر المستوى التنظيمي؛ حيث إن مجموعة من الفقهاء اعتبروا الديمقراطية كفرا، وأنه لدينا دستور ولسنا بحاجة إليه، وأن الدستور بدعة وما إلى ذلك، وهذه كلها مقاومات يبديها مجتمع تقليدي تجاه مستويات من التفاعل مع الحداثة الكونية، وبالتالي كلما ارتفعت مستويات الحداثة كانت المقاومات أكبر وأضخم. فمثلا، كانت هناك مقاومات تجاه الحداثة التقنية لكن اليوم انتهت؛ لا أحد يحرم الانترنيت أو فيسبوك، بل الجميع يتهافت على التقنية. كذلك على المستوى السياسي هناك نوع من التطبيع والتطبع التدريجي مع الحداثة وتقبلها بتريث وببطء، وهذه الآلية يمكن أن نراها من زاويتين، زاوية الوعي والإرادة والزاوية الميكانيكية؛ فعلى المستوى الفكري هناك الوعي والإرادة أكثر، لكن على المستوى الموضوعي والعامي للحداثة هناك الآليات الميكانيكية المتكررة. لكن أيضا للتقليد آلياته وأشكال مقاومته ولا يسلم بسهولة، فهو يقاوم الحداثة لكنه في مستويات معينة يحاول استلهامها واستعمالها، وأحيانا يتخذ التقليد صبغة حديثة ليستمر في الحياة بينما الحداثة تريد أن تستعمل التقليد لتخترقه. وأنا إذا استفدت شيئا من كل هذا التفكير، فأعتقد أن المعالجة السليمة لمسألة الحداثة تتطلب الوعي بمستويين؛ مستوى الإرادة والوعي من جهة، ومستوى الآليات الموضوعية من جهة أخرى.