حينما عانقتُ مدينة تطوان في زمن بعيد من سنوات طفولتي رفقة والدي الذي ساقته لقمة العيش إلى هناك، هربَ بصري للوهلة الأولى صوب سبع جداريات تشكيلية تزيّن قبة فضاء الاستقبال بالمحطة الطرقية القديمة وترمز إلى الحياة اليومية لهذه المدينة وضواحيها، من توقيع الفنان الإسباني سالاس التي أنجزها سنة 1955. تلك الجداريات شدّت انتباهي وحواسي وأنا أصعد الأدراج في اتجاه الوجوه والتّيه والغموض.. لأدرك فيما بعد أن للمدينة إرهاصاتٍ حضاريةً ومنبراَ فنياً كبيراً احتضن عشرات القامات.. ولتقودني احتمالات أمكنتها وفضاءاتها وأبوابها وحاراتها البيضاء نحو إيقاعات جمالية وإنسانية رحبة، كنتُ لا أدري مسافاتها وملاحِمهَا ومعطياتها.. فقط أتوغّل بين طرقات هذا العطر السّاحر، فأزداد تعلّقاً وتشابكاً بنسيجه العتيق والعميق.. هي تطوان، إذن، التي احتوت أغصانها مملكة الحمام، وشكلت منه عنواناً وجسراً ربطها بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي سيستوطن رمزياً بين ينابيع الفنان التشكيلي المرموق أحمد بن يسف (72 سنة).. وكأنها تسلّمه سرّها وعنفوانها وهامات شجرها، ليحلّق بأجنحة الألوان تجاه مجرى أفقه الشديد التباين.. هو الذي تربّى بين أحضان أسرة محافظة ومتوسطة حافظا للقرآن الكريم، وجاعلا من لوْحِهِ بصباحات المسيد راية تقطر براءة، موشومة بالعفوية، تجمع خطوطا وأشكالا.. إذ كان يشاغب شيئا ما داخله ينمو ويُزهر.. شيئا كالنّبع البعيد - القريب. خريج مدرسة تطوان للفنون الجميلة (فوج 1965) رفقة الفنانين: محمد الدريسي ورشيد السّبتي وعزيزة الصبّاح، والتي رسم ملامحها الفنان الاسباني (بيرتوتشي) في سنة خمس وأربعين تسعمائة وألف، سيمنحه الحمام أيضا جواز أجنحة التحدِّي والمغامرة، والذي أحبّ السّماء عروجاً نحو ضفاف إشبيلية لإتمام دراسته الأكاديمية، التي زادت من تطوير مهاراته وخبرته، ومنحته ظلا آخر بين سنوات: (1966 و1971)، لتصبح بعد تطوان وطنجة منهلا جديداً لأعماله وتطلعاته وإقامته، راسماَ لها دروباً عديدة متقاطعة الرّؤى والأثر.. في سفره التّشكيلي، سنتعرّف على واقعية تعبيرية تُساير التّحوّلات الفنيّة، وتنهل بعين شفّافة من اليومي ومن الجذور والثقافات المحلية، وستجعل من ريشته نافذة مُشرعة على الأبعاد الإنسانية - الكونية، وعلى المنسي والمهمّش وممرّات الذاكرة.. إذ سيجاور بحسّه الرّفيع وبلمساته الفائقة العذوبة بورتريهات لوقائع حسيّة راسخة: المرأة الكادحة والطفل البسيط والشيخ الوقور والعامل المكافح والصّانع الماهر.. جاعلا من ظروفهم الاجتماعية شهادات مبصومة بألسنة الأمل والألوان، عبر بناء جماليّ يرى المسافة بين الومض والزّمن الحي والنّهر الذي يسري في شريان الإبداع بميزان الحكمة والأحاسيس الممتدّة بالتحوّلات.. كما كانت للرسّام تجربة أخرى لها مغازيها ودلالاتها على مستوى مساره، بعدما قام بنك المغرب بطبع لوحته عن المسيرة الخضراء بالأوراق النقدية.. الفنان التشكيلي أحمد بن يسّف، الذي لا يرتكن إلى التّسميات والاتجاهات الفنية وينتصر فقط لأهمية العمل ونتيجته على ملامح النّفس، جرّب النّحت والحفر وطوّع الطّين، والذي له فيها نماذج من الاتساع والتنوع، فهم عناقه الآخر المبسوط بأقواس قزح وبأصوات الحضارات... هكذا، تصبح اللوحات بين أنامله رسائل نحو المعنى وقراءة الجهات والمساحات المكشوفة، وهو يوظّف عبرها كذلك ومن جانب جميل ومختلف، إرث معمار العرب بالأندلس، الهارب بتاريخهم وأفكارهم وفسيفسائهم، والمؤرخ لمجد زائل.. أكيد أن سيرة الحمام من سيرة الإنسان المُجدّ الذي يتطلّع إلى الأعالي، إلى صوته في الهناك، فلا حدود لعناق الفصول والأمكنة والمجرّات.. ولا حدود لهديل ريشة هذا الفنّان الرّائد الذي تكلم على القماش بصدقٍ وخلقٍ، متّحداً بالذات وبكل عناصر الطّبيعة والأشياء، منتصراً للفنّ الفصيح.. ما أبهى النّزهة في عوالم الجمال لأحمد بن يسّف.. ما أبهى الذّهب بين يديه..