أرسى المشرع الفرنسي عدة عقوبات في مجال التعمير والبناء ، نذكر منها ،العقوبات السالبة للحرية ، العقوبات المالية ، نشر الاحكام النهائية في الجرائد ، مصادرة مواد وأدوات البناء ، إغلاق اوراش البناء ، وضع الأختام ، إيقاف الأشغال ، الغرامة التهديدية ، إلغاء عقود البيع والكراء والتقسيم . لكن الطبيعة القانونية للهدم بالخصوص كان موضوع سجال قضائي وفقهي متكرر، كما اثارت علاقة الهدم، كإجراء خاص بالعقوبات التقليدية عدت نقاشات قضائية وجامعية. وللإشارة، يهدف القانون الجنائي التعميري إلى حماية إطار الحياة وقيم الصحة والأمن والسكينة العامة والبيئية والجمالية والتراث والتنمية المستدامة. وعليه، تعتبر المنظومة الزجرية بمثابة دركي أو شرطي السياسات العمومية خاصة في مجال البناء والتعمير والسكنى والبيئة. وتدخل العقوبات السالبة للحرية والعقوبات المالية ونشر الاحكام النهائية في الجرائد في زمرة العقوبات التقليدية المنصوص عليها في القانون الجنائي العام، بينما يعتبر الهدم وباقي الإجراءات الرامية إلى إنهاء المخالفات، تدبيرا خاصا جاء به قانون التعمير. وبالمناسبة، أذكى تنزيل القانون الجنائي التعميري عدة تساؤلات جوهرية ومسطرية. وطيلة زمن غير يسير، سار القضاء يبني عدة تصورات للطبيعة القانونية للهدم. فتارة، كان يرجح التصور المدني الصرف للهدم، وتارة اخرى، تبنى القضاء أطروحة الطابع الجزائي الصرف للهدم. ثم اخيراً، تخلى عن هذا المنحى ليتبنى تصورا مختلطا ومركبا للهدم يقوم على اعتبار الهدم تدبيرا عينيا يرمي إلى إزالة المخالفات المرتكبة بعيدا عن كل عقوبة صرفة. ولتسليط الأضواء على التطورات التشريعية والقضائية المتعلقة بالهدم في مجال التعمير على مستوى التجربة الفرنسية، لابد من التدقيق في التوجهات الثلاثة التي تبناها القضاء للحسم في الطبيعة المعقدة للهدم التعميري مع التركيز على الأسس القانونية للأطروحات المتضاربة. 1- أطروحة الطبيعة المدنية للهدم التعميري: في البداية، كان القاضي الجنائي الفرنسي يميز بين العقوبات التقليدية المنصوص عليها في القانون الجنائي والواردة في قانون التعمير من جهة وبين الهدم كإجراء خاص جاء به قانون التعمير من جهة ثانية. فكان يطبق أنظمة مختلفة على هذين النوعين، وانطلاقا من هذا التقسيم الثنائي، اعتبر القضاء الهدم تعويضا مدنيا يهدف إلى التعويض العيني نتيجة للخطأ الجنائي، وسار يطبق قواعد المسطرة المدنية وقواعد القانون المدني على البت في مخالفات البناء في شق الهدم بينما كان يطبق قواعد المسطرة الجنائية ومقتضيات القانون الجنائي على مخالفات البناء في أفق الحكم بالغرامات والعقوبات السالبة للحرية ونشر الاحكام . فكان القاضي يحتكم لقواعد التقادم في رفع المطالب المدنية وفي المطالبة بتنفيذ الحق في التعويض، وكان يعمل بمسطرة التعويض في إطار الدعوى المدنية التابعة والدعوى المدنية الصرفة. وللإشارة، أنشأ القضاء تصور الطبيعة المدنية للهدم على اساس الاضرار الناجمة عن المخالفات عِوَض الاخلال بالنظام العام بالرغم من غياب المتضرر وغياب تحديد طبيعة الضرر الموجب للتعويض عينا أو نقدا. وتعرض هذا التوجه لانتقادات قضائية وفقهية على اعتبار أن الهدم يهدف إلى رفع الاخلال بالنظام العام ولا يكتسي أية صبغة تعويضية وأن تطبيق القواعد المدنية على مخالفات البناء يشكل انحرافا قضائيا. فباشر القضاء ترجيح التصور الجنائي الصرف للهدم. 2- أطروحة الطبيعة الجزائية للهدم التعميري: في مرحلة ثانية، ادرج القاضي الفرنسي العقوبات التقليدية المنصوص عليها في القانون الجنائي والواردة في قانون التعمير في سلة واحدة من جهة وبين الهدم كإجراء خاص جاء به قانون التعمير من جهة ثانية. فكان يطبق نظاما قانونيا واحدا على هذين النوعين من التدابير الزجرية. فجنح القضاء الجنائي نحو التطبيق الكلي لقواعد المسطرة الجنائية والقانون الجنائي على مخالفات البناء، فكانت المحاكم تقتصر حصريا على الدعوى العمومية للبث في العقوبات المختلفة والنطق بالعقوبات المالية والسجنية ونشر الاحكام القاضية بالهدم. وفي هذا المضمار، أقام القضاء تصوره للطبيعة الجنائية للهدم على أساس الاخلال بالنظام العام مع استبعاد كل بعد تعويضي في شقيه المالي والعيني، وكان القاضي يحتكم إلى قواعد الدعوى العمومية من حيث التقادم والسقوط من ناحية أولى وكان يطبق قواعد تقادم العقوبات من ناحية ثانية وكان يلتزم بمبدأ شخصية العقوبة من ناحية ثالثة . فاصطدم التصور الجنائي المحض بعراقيل وانحرافات بسبب استبعاد خصوصيات الهدم بالمقارنة مع العقوبات التقليدية، فقاومت محكمة النقض تدريجيا الخلط المطلق بين الهدم والعقوبات الكلاسيكية. في هذا السياق، استبعدت عدة خيارات زجرية من صلاحيات القاضي الجنائي. وعلى سبيل المثال، عارضت محكمة النقض النطق بالهدم مع وقف التنفيذ، والنطق بالهدم كعقوبة بديلة عن الغرامات، و تطبيق الهدم كعقوبة رئيسية ثم تقرير الهدم كعقوبة تكميلية، وسار القضاء الجنائي ينظر إلى للهدم "كتدبير خاص" وإن كان ذات طبيعة شبيهة بعقوبة تابعة لا يمكن النطق بها إلا في حالة الادانة وبشكل موازي مع النطق بالعقوبات الكلاسيكية. فخلص القضاء، على ضوء عدة نوازل وقضايا، إلى الاعتراف بخصوصيات الهدم وعدم خلطه مع العقوبات التقليدية. ولقد أذكت قوانين العفو الشامل السجال حول الطبيعة القانونية للهدم . 3-أطروحة الطابع المزدوج والمختلط للهدم التعميري: في المرحلة الأخيرة، أدرج القاضي الفرنسي الهدم في سلة العقوبات الاستثنائية والتدابير الخاصة. وأصبح يميز بين العقوبات التقليدية المنصوص عليها في القانون الجنائي والواردة في قانون التعمير من جهة وبين الهدم كإجراء خاص جاء به قانون التعمير من جهة ثانية، وعلى ضوء هذه المسلمة القانونية، أعطى القضاء تعريفا خاصا بالهدم، اعتبره تدبيرا عينيا يهدف إلى محو المخالفات المرتكبة بعيدا عن كل بعد زجري محض. وبالتالي، خلع القاضي الطابع العقابي الكلاسيكي للهدم وتحفظ عن منحه صفة التعويض المدني المحض، وأدرجه في خانة التدابير العينية الرامية إلى إزالة المخالفات المترتبة عن عدم احترام ضوابط البناء والتعمير. وانطلاقا من هذه القناعات، توصل القضاء إلى إرساء نظرة جديدة لطبيعة الهدم تقوم على أساس البث في مخالفات التعمير حصريا في إطار الدعوى العمومية واتباع مسطرة استثنائية للبث في المخالفات العالقة في حالة سقوط الدعوى العمومية أمام المحكمة المدنية بناء على طلب النيابة العامة. ونظرًا للخصوصيات التي اعترف بها القضاء للهدم، لقد استبعدت محكمة النقض عدد كبير من قواعد المسطرة الجنائية وقواعد القانون الجنائي الكلاسيكية. ونذكر على سبيل المثال، نفي صفة العقوبة البديلة للهدم، منعت الحكم بالهدم موقوف التنفيذ، واستبعدت إعمال شروط التخفيف والتشديد في النطق بالهدم، قاومت صبغ الهدم بصفة عقوبة تكميلية، وتبنت إبعاد السقوط المطلق للدعوى العمومية في حالة وفات المخالف وتعمدت عدم الامتثال المطلق لمبدأ شخصية العقوبة. ولعل التنصيص التشريعي على اتباع مسطرة استثنائية للنطق بالهدم وتنفيذه بالرغم من وفات المخالف أو صدور قانون العفو الشامل من مساهمة القضاء في إرساء القاعد الناجعة في محاربة جرائم التعمير والبناء. وبالمناسبة، تقوم مسطرة محاكمة جرائم التعمير مدنيا على طلب النيابة العامة مع إعمال بعض قواعد المسطرة المدنية. هكذا، أرسى القضاء والمشرع الفرنسيين الاقتباس من قواعد القانون الجنائي والمسطرة الجنائية من جهة ومن قواعد القانون المدني والمسطرة المدنية من جهة ثانية، وأنشأوا إطارا مركبا ومختلطا لمحاكمة المخالفين والمخالفات في مجال البناء والتعمير. *باحث وخبير في السياسة الجنائية في مجال التعمير