كلّما فتحت النّافذة يأتيني الجواب سريعاً، ضوءٌ قريبٌ محاط بمئات العصافير ومطر يطلّ عالياً من غيمة صديقة..وبعض الشجن، راسمين من صوتها نشيداً لا ينمحي على لوْحِ الرّوح.. فيروز: حين يسري الصوت في الخلايا، يصير التيّار قطعة أرض تتوغّل فينا..في امتدادنا الذّاتي والجغرافي والأخلاقي، وتمسي سيرة الوجع الطّويل فسحة من الدّهشة، توقظ نهراً من الأسرار ومدائن الإنسان.. صاحبة "جارة الوادي"، و"نسّم علينا الهوا"، و"نحنا والقمر جيران"، و"زهرة المدائن"، و"يا جارة الوادي"، و"كيفك إنت"، وغيرها كثير..إطلالة أخرى على أزمنة تبلّد القيم و"ماركات" التّدجين، صَاحَبَتْ الطالب والعامل والثّائر والموظف والمدرّس والعاشق وكل طبقات المجتمع؛ هي كنز أحاسيس تقطع الوقت بالغناء، بعدما صارت مكتبة فنية صافية ونابضة بالعمق، أعادتنا إلى مفردات الهوية ولوعة الكلمات، تجعل الجراح بلسماً والأيام عبوراً نحو الأفق الواسع..نحو لعبة كيف نواجه كلّ هذا الخراب الذي يستوطن عتباتنا بالموسيقى، وكيف نعرّي بشاعة مراياه المحطّمة.. صدفة الكبار (زوجها الرّاحل عاصي الرحباني وأخوه منصور) ستجعل النّاي غزير الدّلالات والأبجديات، وستجعل الأشياء تقول تفاصيلها وتقبض على المعنى بين سطر وأغنية، وبين ما يخبئ المساء في منازلنا الأولى.. نهاد وديع حدّاد، المعروفة بفيروز، لم تكن يوماً خارج أفقنا المحتمل، بل هي من صميم هذا الأفق، من إرثه وانكساراته وأحلامه، استمرت تصاعداً لأكثر من خمسة عقود، منتصرة للجمال وقيمه، ومهيبة كما جلال السّنين..نستظل بصوتها في الفرح وفي الحزن وفي مشارف الصّمت، ونتطلّع عبره لعشرات الهامات التي جايلته وصنعت مجد الأغنية العربية، منها: وديع الصّافي، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، ملحم بركات، وردة، عبد الهادي بلخياط، نعيمة سميح، عبد الوهاب الدكالي، كاظم الساهر، محمد الحياني، مارسيل خليفة، ماجدة الرّومي، عزيزة جلال ... هي الطفلة المُورقة بالحياة وذاكرتنا التي غرّدت في سن السّت سنوات لتنطلق في بداية الأربعينات في إثراء بساتين الموسيقى، معلنة الحبّ في كل مكان وزمان بعدما اقتنصها الموسيقار حليم الرّومي، وليصبح لها من عذوبة الماء وشوارع الأزهار نصيباَ.. فيروز، سيدة الينابيع وصاحبة العديد من المسرحيات الغنائية التي نالت تقديراً فسيحاً، والتي غنّت للمغرب والمغاربة في بداية السبعينيات، تشعل شمعتها على مدار السنتين بعد الثّمانين في وجه الأجيال وكأنها تقول: الغناء يمنح إكسير الخلود، لكنّه قبل كل شيء رسالة صوب الأبعاد الإنسانية التي لا يسكنها النسيان، تبقى مطلة من القلب على وجودنا الأسمى، متخذة من الحكمة موطنها وطريقها..