لا تزال السينما التي تهم القضايا العربية تحاول أن تجد لها موطئ قدم في جوائز المهرجانات العالمية الكبرى، على غرار الأوسكار والكان وبرلين وغيرها. لا لإيصال قضيتها فحسب، بل لأن تؤكد استقلاليتها سينمائيا لا بالتقليد ولا بالتبعية. وبالرغم من تأثر مخرجين عرب (أو ذوي أصول عربية)، بحكم دراستهم الأكاديمية للسينما في معاقلها، فإنهم يحاولون التجرد من التأطير أو النمطية السائدة في أواليات الفن السابع. وينحصر بعضهم في القوالب نفسها أو ينأى بطريقته الإخراجية، صانعا لنفسه لمسة أو تكييفا للتقنية على اختياراته لا العكس. هذا الحديث قد لا يعني، بالضرورة، المخرجة الفرنسية ذات الأصول المغربية هدى بن يمينة، التي نحن بصدد قراءة فيلمها الأخير؛ لكن هذه الأخيرة بعد أن خلقت المفاجأة بمهرجان "كان" السينمائي في دورته ال69، فهي تنبئ بميلاد مخرجة ستضع صوب عينيها تحقيق النجاحات مستقبلا؛ وذلك بعدما نال فيلمها "إلهيات " (DIVINES) جائزة الكاميرا الذهبية في "كان" الأخير. جربت هدى بن يمينة ثلاثة أفلام قصيرة واستوحت من خلال قصصها الاجتماعية وباكتشافها لأداء الممثلة الصاعدة علية عمامرة قدرتها على النفس الطويل، فأخرجت فيلمها الطويل الأول هذا "إلهيات". تصف بن يمينة فيلمها بأنه "سكارفيس" نسائي (تشبيها بفيلم سكارفيس لألباتشينو في سنة 1983) ، حيث يتمحور حول فتاة في السابعة عشرة من عمرها تدعى "دنيا"، تحلم بتحقيق أحلامها بمحاباة الكبار وتتعطش للنجاح، فتضطر لأن تترك المدرسة، وتحاول الانضواء تحت كنف تجارة المخدرات بأحد أحياء العاصمة الفرنسية، لأنها سبيل للقوة وللنجاح أمام محيطها والمجتمع. وأثناء ذلك، تصادف "دنيا" أولى بوادر الحب مع شاب يشتغل حارسا بأحد المتاجر، والذي بدوره يحلم، بصورة مقابلة، بأن يصير راقصا عالميا، بعد تخرجه من مدرسة للرقص. تتطور أحداث القصة لتجد "دنيا" نفسها بين عالم يسبح في فلك الممنوع، وبين آخر يهيم في الفن والحب؛ لكن ما الذي تحكيه القصة؟ بناء الحكاية في الأربع دقائق الأولى من الفيلم وقبل أن يظهر عنوان الشريط، يفتتح الفيلم بآيات من القرآن متلوة بصوت عذب، ومتبوعة بموسيقى أوبرالية "كنسية". وعلى ضوء هاتين الخلفيتين الموسيقيتين، يقدم الفيلم في تلك الدقائق الأولى أرضية حكايته، إذ يتعلق الأمر بمجتمع يعرف تنوعا داخل "غيتو" مختلف، يمزج ديانات وأعراق وملامح وجوه جنسيات متباعدة. إنها "إلهيات" سماوية تلوح في أفق الحكاية. تجد الشخصية الرئيسية "دنيا" (جسدت الدور علية عمامرة) نفسها في أول الفيلم بين عالمين، بين المسجد، إرثها وجذورها المشتركة مع صديقتها ميمونة (أدت الدور ديبورا لوكيموانا)، وبين عالم بمحاذاتها يجسد المال والأحلام؛ أحلامها ومستقبلها المجهول. وبلقطات من كاميرا الهاتف، يعرض الفيلم ذكريات البطلتين ومدى صداقتهما، والذي تحررت به المخرجة، بهروب ذكي على طريقة الحكاية التسجيلية، من تقنيات "الفلاش باك"، والذي سيتم توظيفه - أي الهاتف- على طول الفيلم، لتبرير مدى حضور التسجيل في حياة الشخصيتين الرئيسيتين. تعاتب مُدرسة دنيا، بكونها "لا تتبع القواعد الأساسية والمرسومة"، وما دامت هكذا "فلن تحقق أي شيء في حياتها". كانت هذه الجملة هي المحرك أو النقطة التي أفاضت الكأس، لتضيق دنيا ذرعا بنظام المدرسة.. وتغادرها غاضبة. بالرغم من أننا لا نعلم هل غادرت بصفة نهائية أو لوقت محدود؟! تتطور أحداث الفيلم بسعي دنيا نحو ما يحقق لها ذاتها ويشبع فورتها الشبابية، فتحاول التقرب من "ريبيكا"، المتحكمة في تجارة المخدرات، والمترفهة بسيارة آخر موديل. فتنجح في ذلك وتدخل عالمها، وتتفوق في كسب ثقتها ومالها، لتكبر معها الأماني بأن تسافر وتركب أفخر السيارات هي الأخرى، فتواجهها صعوبات ومخاطر "اللعب" مع المحظور. وبالرغم من حداثة سنها الحرج، فإن دنيا تفضّل محاباة الرجال وتحمل المسؤولية الأسرية والتضامنية مع جيرانها، إلى درجة تنسى نفسها وأنوثتها، بملامح وجهها الغاضب والحاد. تغوص "دنيا" في عالم الكبار، وتقترب من الوصول إلى الضربة القاضية، التي قد تكسبها مالا وفيرا؛ لكن خطورة مهمتها تكمن في التقرب من أحد الناشطين في الممنوعات (شاب يبدو في الثلاثينيات !)، لمحاولة إغوائه (بطرق مبتذلة وغير مقنعة!) وسرقة المال من منزله. بدا تصوير هذه الخطوة هي أكبر "كليشي" يضعف قيمة الإخراج في الفيلم. الفن يقوض الكليشيهات حوار المدرسة كان محرضا للجوء إلى الطرق الممنوعة لكسب المال ولتحقيق الذات، ووالدة دنيا التي تشتغل في الكاباريه، و"دنيا" التي ينعتونها باللقيطة، والمتحول الجنسي، وصعوبة اندماج أبناء المهاجرين في المجتمع... كلها كليشيهات طغت على الفيلم؛ حيث ينخرط الفقير "الناقم" في فلك الممنوع لكي يكسب المال، والذي تكون نهايته سيئة أو كارثية قد يندم عليها، فيتعلم منها دروسا ! هذه الحكائية قد لا تقدم للمشاهد شيئا جديدا بإزاء ما يعرف في السينما الهوليودية، أو في النمطية "المكررة" في أفلام التشويق على شاكلة فيلم بن يمينة هذا. اللهم ما عدا أداء شخصيتي الفيلم المتقن؛ دنيا وميمونة، الذي أنقذ الفيلم من أسلوبيته المتبذلة. تنتقل الكاميرا بين الأماكن وفضاء الحكاية، من الحي إلى السوق المركزي، إلى خشبة المسرح التي صورت بزاوية مختلفة، برؤية علوية، حيث تختبئ "دنيا" وتراقب تداريب الراقص خيفة. هذا الانتقال بين المشاهد لا يبعث على الملل، فبالرغم من ضعف الحوار خلالها وعدم تناسق بنائها أحيانا، فالحكي من خلال المونتاج ساعد على تطور أحداث الفيلم واستيعابه، وغطى نوعا ما على ارتباك السيناريو؛ لكن مع ذلك لم يعطه –أي الحكي- وحدة دلالية أو بنائية، بل مجرد تتالي زمني. يظهر هذا جليا بحصر كل مشهد بمكان معين من أطوار السرد؛ فالمخرجة حاولت تبرير التواجد فيه بتطويعه بحوار الشخصيات وبربطه بالمشهد الذي يليه. وبالتالي، جاء السرد الفيلمي تشويقيا، ولا يمنح المتلقي شعورا بالعمق الحكائي والبصري، باستثناء مشاهد الراقص (أدى الدور الراقص كيفين ميشيل) مع "دنيا"، التي أضفت بعضا من التعبيرية الجسدية على خشبة المسرح، وعلى الفيلم. تصوير حياة طبقة اجتماعية تضم جنسيات مختلفة، حيث يتصارع فيه أبناء المهاجرين محاولين البحث عن مخرج للفقر أو لكرامة إنسانية لائقة، جعل المخرجة ترتهن للظروف الاجتماعية الموازية، والتي يقاوم فيها فنان ليس أحسن حالا، لا يملك سوى الرقص كأمل معيشي. فتتمازج وتلتقي الشخصيتين "الحالمتين". يمنح إدراج "فن الرقص" في الفيلم لتقويض عالم "دنيا" الطموحي، هروبا من الإغراق في كليشيهات السينما. نجح هذا بتوظيف الرقص (الكوريغرافيا) الذي يستند على الأداء وتصميم الرقصات المناسبة أدائيا، داخل العرض المسرحي لأي فيلم. الشيء الذي جعل حياة "دنيا" تبدو كأنها عرض مسرحي على "خشبة الواقع"، وأن التعبير الجسدي -الرقص- جزء لا يتجزأ من حكاية الفيلم (كما يعتبره رائد المسرح بريخت). إضافة إلى ذلك، أضفت التقنية التصويرية لخشبة المسرح (بكاميرا رأسية) واحترافية الراقص، جمالية على الموضوع بتوائم الرقص مع لحظات الغضب والحب. يمكن للمشاهد أن يتوقع نهاية الحكاية المبتذلة للفيلم؛ لكن المخرجة حاولت الهروب بقدر الإمكان من كليشيهات الإخراج والحياة، عن طريق المخلص الواقعي الذي هو "الفن" ذو الطابع "الإلهي".