لا يمكننا أن نرجع إلى الوراء، فقد أصبح لزاما علينا أن نقطع مع الماضي ونتواطأ مع الحاضر وإلا دهسنا الزمن وعبر. ننادي بضرورة التغيير في كل المجالات؛ لكن هناك مجال نتناساه، بل هناك من يجبرنا على ذلك مكرهين. كيف يعقل أن نصرخ في وجوه مخرجينا وسينمائيينا بأن يطوروا من أدوات وآليات اشتغالهم، دون أن نلتفت إلى أولئك الذين يرافقونهم بالكتابة والتحليل، أولئك الذين ينتمون إلى مجال نطلق عليه تجاوزا في بلادنا ''النقد''؟ فإذا كان تعريف هذا المجال ما زال ملتبسا لدينا، والوقوف على حقيقة مناهج اشتغالاته ما زال مشوشا لدى أصحابه أنفسهم، فكيف سيستقبله المتلقي العادي؟ لا شك في أن السينما ببلادنا تطورت، على الأقل من الناحية التقنية والجمالية، بفعل التطور التكنولوجي الذي عرفه مجال الصورة؛ لكن ماذا عن الكتابة النقدية؟ وماذا عن تقنياتها وأسلوبها وخطابها؟ وماذا عن الرسالة المنوطة بها كجسر عبور بين العمل والمُشاهد؟ وهل نجحنا فعلا في تفكيك هذه المعادلة وأصبحت لدينا القدرة على التأثير في سينمائيينا وجمهورهم، كما يقع في باقي البلدان الاخرى؟ طبعا، الجواب واضح ولا يحتاج منا إلى جهد استثنائي. لنمرّ سريعا على بعض الحقائق، وبعدها نعبر بمعية الزمن إلى الحاضر لنقف على أمور استجدت وخلخلة مفاهيم هذا المجال قليلا. هناك نقاد من الماضي صنعتهم الصدفة داخل النوادي السينمائية، تلك التي كانت آنذاك مصدر قوة للفعل السينمائي ببلادنا، منهم من مارس النقد شفاهيا دون توثيقه؛ بل ما زال إلى الآن يستخدم الأسلوب نفسه في الندوات واللقاءات التي يستدعى إليها.. وهناك من ألبس كتاباته رداء التعقيد وجعلها مجرد طلاسم رياضية مشحونة بأرقام غير مفهومة للسينمائي قبل المُشاهد، ظانا منه أنه بهذا الاستعراض اللغوي يمارس نقدا حقيقيا؛ لكن في الحقيقة لا يعدو الأمر مجرد تكريس لقصر نظره واستعلائيته المستفزة، التي لم ولن تفيد هذا المجال في شيء. وبقيت الكثير من هذه الكتابات محصورا داخل رؤوس أصحابها دون الخروج منها، هذا بالرغم من نشرها في بعض الصحف والجرائد، أو إصدارها ضمن كتب، كتابات ينفر منها القارئ ويتجاهلها تماما، ووجودها مثل عدمه. وهناك آخرون يحملون صفة النقاد وهم في الحقيقة مجرد مترجمين، أو بالأحرى لصوص متنكرون يترجمون مقالات من لغات أجنبية ''يمغربونها'' وينسبونها الى أنفسهم دون ذكر مصدرها... في الحقيقة هناك الكثير من مثل هذه النماذج التي يعج بها هذا الميدان؛ لكن في المقابل هناك آخرون مخضرمون أيضا، لكنهم كرسوا أسماءهم من خلال اجتهاداتهم ومتابعاتهم وكتاباتهم الجيدة، البعيدة كل البعد عما ذكرناه سابقا. المشكل الحقيقي الذي يعانيه هذا المجال ويقف حجرة عثرة أمام تطوره هو النقاد أنفسهم، خصوصا من الفئة الأولى التي ذكرتها. يخشون الجديد ويرتعدون منه، خوفا على أسمائهم ومصالحهم وامتيازاتهم؛ فتكريسهم لسلبية هذا الميدان، وجعله مجرد كتابات مملة لا تخرج عن الإطار الاستعراضي، لم يمنع ظهور أصوات جديدة بدأت تتغلغل بقوة داخل هذه المنظومة وتعيد ترتيب أساليب اشتغالها. أصوات تفاعل معها المتلقي وجعل منها أداة مهمة في إيجاد حل لهذا الوضع، بإقباله على خطاباتها وتشجيعه ومساندته لها، وهذا ما لم يحدث من قبل. كما أن استغلالها بقوة للوسائل التكنولوجية الجديدة، وخصوصا شبكات التواصل الاجتماعي، جعلها تنتشر بسرعة، وتتجاوز الجيل التقليدي الذي ما زال يعتمد على نفس أدوات اشتغاله القديمة. من هؤلاء من يكتب في منابر إعلامية متنوعة، ومنهم من ألف كتبا، ومنهم من اتخذ الأثير والتلفزيون منبرا له. يصفهم بعض الحرس القديم بالشعبويين، ويصفهم بعض المرحبين بالموجة الجديدة. قوة اختلافهم لا تتجلى فقط في وصف الواقع كما هو دون انحياز ولا مجاملة؛ بل تكمن أيضا في قدرتهم على فك العزلة عن المتلقي، من خلال صياغة خطاب مناسب له يفهمه ويتجاوب معه. من هؤلاء بلال مرميد، اسم عرف كيف يقتنص الفرصة ويستفيد من حدسه الصحافي ويستغله لصالح النقد السينمائي، من خلال تجريده من مفهومه التقليدي الملتبس وإعادة تدويره من جديد عبر أسلوبه الخاص الذي ميزه وجعله مختلفا عن الآخرين. إن تفاعل الناس مع مرميد جعل منه عنصرا استثنائيا في مجاله الإعلامي، وأكسبه مصداقية مهمة في هذا الوسط؛ فكان مثل غارة مفاجئة حركت الركود الذي كان يعانيه، غارة أزاحت الكثير من الغبار عن أسئلة كان متراكمة لدى المتتبع، خصوصا ذاك المحايد المنصف الذي راهن على الوافد الجديد / القديم وعلى آلية اشتغاله والوسائل المستعملة في توصيل خطابه، من إذاعة وتلفزيون وأنترنيت، وسائل أصبحت جزءا لا يتجزأ من أسلحته الدفاعية والهجومية أيضا، بما يتوافق ولحظة المواجهة، وكذا ظروف بث ركنه الإذاعي. كنت أتابع ركنه اليومي عبر الأثير وما زلت، وبعدها برنامجه الأسبوعي، سواء في نسخته الإذاعية المصورة أو نسخته التلفزيونية لهذه السنة. قد نختلف معه أو نتفق؛ لكنه يبقى اسما صنع نفسه بنفسه، وفرض أسلوبا جديدا مغايرا لباقي البرامج الحوارية، التي جعلتنا ننفر منها بسبب ضعفها الفكري والثقافي ومحاولاتها استغباء المشاهد التواق إلى برامج حقيقية تسائل بجد الفاعلين السينمائيين وتحاسبهم، خصوصا أن جمهور اليوم أصبح أكثر فهما ودراية بما يروج خارج حدوده، ويتابع بشغف ما يعرض هناك من برامج، ويمني نفسه ببرامج مشابهة تتحدث باسمه وتثير تساؤلاته نيابة عنه، بعيدا عن الخطاب المجاملاتي المصطنع. بلال اقتحم هذا الميدان بقوة وخلق لنفسه وضعا اعتباريا فيه، شَطَر توجهه النقدي إلى شطرين متنافرين لكنهما متكاملين: شطر يعتمد النقد بأسلوب مباشر، وشطر آخر إيحائِيّ مواز له، يغوص في فكر المُشاهد ويترك قراءة ما يعلق بين سطوره لذكائه وفطنته. وهنا، تكمن قوة هذا البرنامج التفاعلي الذي يضم، بجانب كرسيي المضيف والضيف، كرسيا ثالثا هو كرسي المتابع؛ ذاك الذي يشعر من خلال هذه العملية بأهمية دوره في نسج خيوط هذه اللعبة. لذا، يبدأ النقاش الحقيقي بعد نهاية المواجهة وليس أثناءها. وهذا، بطبيعة الحال، أحد أهم أهداف هذا البرنامج. هناك الكثير من البرامج الحوارية التي تعتمد على نجومية الضيف ووزنه، حتى تجلب أكبر عدد من المشاهدين وتحتكرهم؛ لكن نجاح هذا البرنامج - ودعونا نقولها بصراحة وهذا ظاهر للعيان إلا لمن يعاند ويستكبر- كامن في المضيف قبل الضيف، لأسباب عدة من بينها طريقة أدائه ونوعية أسئلته، وقبل هذه وتلك تميز إعداده الذي يرتكز على خلفية صاحبه السينمائية المتمكنة. خلاصة القول، إننا أمام برنامج، فضلا عن كونه وسيطا وقنطرة للعبور إلى فكر السينمائيين المغاربة والوقوف على حمولتهم الثقافية والسينمائية، تلك التي يرتكزون عليها في صنع أعمالهم المقدمة لنا نحن الجمهور، هو أيضا منصة مهمة للانطلاق نحو التجديد وخلق الأفضل وإشراك المتلقي في الفعل النقدي وتجاوز الزمن التقليدي الذي يصر البعض على تجميده بما يخدم مصالحهم وتوجهاتهم، امتيازه في مشروعيته التي يستمدها من متتبعيه. هذا دون نسيان بعده التثقيفي، وخصوصا في المجال السينمائي ذاك البعد الذي تفتقر إليه باقي البرامج الأخرى. *ناقد مغربي