تشهد مدينة الدارالبيضاء، في الآونة الأخيرة، عدة أوراش تهدف إلى إعادة تأهيل هذه المدينة؛ فقد تم الشروع في إعادة تصميم بعض الشوارع الكبرى (كشارع أنفا، والمسيرة، والزرقطوني، والجيش الملكي...) وإعادة بناء المحطة السككية للميناء، وإعادة توسيع كورنيش عين الذئاب وتجميله، والشروع في إنجاز المارينا إلى غير ذلك من الأوراش. لكن في الوقت الذي يتم فيه الاهتمام بإنجاز هذه المشاريع، هناك إهمال شبه تام لوسط المدينة بشوارعها ومحلاتها التجارية ومقاهيها وفنادقها...، إذ على الرغم من تبليط ساحة الأمير مولاي عبد الله، وإن كان قد ظهرت عيوب هذا التبليط فيما بعد، وإصلاح بعض الممرات التي تخترق وسط المدينة (كممر الكلاوي، وممر التازي...) وصباغة العمارات الموجودة بشارع محمد الخامس بعد اختراقه من لدن سكة الترام، وتفويت مناطق وقوف السيارات إلى بعض الشركات الخاصة، فعادة ما يلاحظ ساكن هذه المدينة بذهول شديد التهالك المريع الذي أصاب أقدم وأعرق وأكبر فضاء بوسط للعاصمة الاقتصادية: فدور السينما التي كانت تنشط هذا الفضاء قد أقفل جلها أبوابه ( كسينما لوكس، والحرية، وأوبرا ...) في الوقت الذي تم هدم دور أخرى لتحويلها إلى تجمعات إسمنتية كما حدث بالنسبة إلى سينما النصر، ولم تتبق إلا بعض الدور التي ما زالت صامدة ضد تيار الهدم مذكرة بعهد زاهر كان فيه وسط المدينة قطب استقطاب لساكني المدينة الذين كانوا يقصدونه، خاصة في نهاية الأسبوع وهم يرتدون أحسن ثيابهم وواضعين أغلى عطورهم، يجوبون شارع محمد الخامس وفق طقوس خاصة تقوم على الاحترام المتبادل، والانتماء المشترك إلى المدينة الواحدة. أما المقاهي فقد فقد جلها الخصوصية التي كانت تميز كل مقهى عن مقهى آخر؛ فمقهى إكسلسيور، منذ أن تم إعادة فتحها، فقدت طابعها الشعبي وروحها الثقافية والفنية والسياسية التي كانت تستمدها من نوعية الزبائن التي كانت ترتادها من مثقفين ونقابيين ومتحزبين، بالإضافة إلى العديد من العاملين في المرسى من سكان المدينة القديمة، حيث تحولت الآن إلى شبه ملعب رياضي تجلس فيه نوعية من الزبائن لا هم لها سوى تزجية الوقت في مشاهدة بعض مباريات كرة القدم سواء مباريات الدوري الإنجليزي أو الفرنسي أو الإيطالي أو الإسباني إلى غير ذلك من الدوريات الأوربية والإقصائيات الأمريكو لاتينية. أما مقهى فرنسا، التي كانت تعتبر لفترة طويلة قبلة للمثقفين والسياسيين والفنانين وباقي الفئات المتعلمة، فقد أضحت فضاء يستقبل على مدار 24 ساعة عينات من الزبائن لاهم لها إلا قتل الوقت في الثرثرة والتدخين، وأشياء أخرى. كما شهد وسط المدينة، الذي كان يعج بالمحلات التجارية بواجهاتها المتلألئة التي كانت تعرض الألبسة الجاهزة من بنطلونات وقمصان ومواد التجميل، إغلاقا للعديد من هذه المحلات التي توجه أصحابها إلى فتح محلات جديدة بالمعاريف الذي أصبح المكان المفضل للبيضاويين والبيضاويات لاقتناء مستلزماتهم وحاجياتهم. ولعل السبب الذي يكمن وراء هذه الوضعية المتردية التي يعرفها وسط المدينة هو الإهمال الذي يعاني منه هذا الفضاء البيضاوي العريق، سواء على الصعيد الأمني أو على تهالك بنياته التحتية. التسيب الأمني إن قرب هذا الفضاء من ساكنة المدينة القديمة التي تعرضت لهجرات من الوافدين الجدد بمنظوماتهم الثقافية وسلوكياتهم القروية والاكتظاظ الذي تعاني منه أحياء هذه المدينة من جراء ذلك، واستفحال ظاهرة المتاجرة وتناول المخدرات داخل دروبها، بالإضافة إلى القرب من المرسى يجعل هذا الفضاء يستقبل العديد من المهمشين من أطفال الشوارع، والحمقى...، الذين يكتسحون مختلف الفراغات والمساحات غير المأهولة، والتسكع بين دروبه . كما يجعل هذا الفضاء قبلة للعديد من المجرمين بدراجاتهم النارية الذين يتحينون أية فرصة لسرقة وسلب مرتادي ومرتدات هذا الفضاء من حليهم أو هواتفهم النقالة أو نقودهم. كما أن ضم هذا الفضاء للعديد من الحانات والكاباريهات، وفتح محلات تجارية لبيع المشروبات الكحولية، يؤدي في الغالب إلى خروج العديد من السكارى والمخمورين للعربدة والتبول في مختلف جنبات وأزقة هذا الفضاء؛ وهو ما جعل العديد من العائلات ترحل من هذا الفضاء، بالرغم من قربه ورخص أثمنة السكن فيه إلى أحياء أخرى بعيدة وغالية ثمن السكن فيها، حفاظا على أمنها وخوفا على سلامتها. ولعل هذا العامل هو الذي سمح للعديد من الوافدين الجدد بالاستقرار ببعض أسطح العمارات القديمة أو السكن ببعض سراديبها الأرضية؛ وهو ما جعل هذا الفضاء يعرف مجموعة من الجرائم المروعة والتي من أبرزها تلك التي تم فيها تقطيع أوصال فتاة من طرف أحد حراس هذه العمارات؛ فعمارات هذا الفضاء أصبح الكثير منها عبارة عن سكن عشوائي يخل بالجمالية العمرانية لهذه العمارات والهندسة الفنية التي صممت بها هذه التجمعات السكنية العصرية. ومما زاد أيضا من التسيب الأمني داخل هذا الفضاء اختراقه من لدن العديد من سيارات الأجرة الكبيرة التي تنقل العديد من سكان الأحياء الطرفية كالبرنوصي وسيدي عثمان وحي الفلاح وحي عادل... لتحط بهم الرحال داخل ساحة الأمير مولاي عبد الله، أو بين الأزقة المحاذية لشارع محمد الخامس، أو قرب فندق ريجنسي بما يرافق ذلك من اكتظاظ واحتكاك وتسيب. ولعل كل هذه العوامل قد أسهمت في جعل وسط المدينة يعيش الكثير من مظاهر التسيب والتي تتمثل في المعاكسات المتكررة للفتيات اللواتي يقصدن الفضاء للتسوق أو ارتياد المقاهي، أو الإزعاج اليومي الذي يتعرض له رواد المقاهي من لدن المتسولين والباعة المتجولين والحمقى أو المخبولين... ففضاء وسط المدينة بالرغم من اتساع أحيائه، وكبر حجمه، واستقطابه اليومي لمختلف الشرائح من سكان الدارالبيضاء وزوارها والوافدين عليها، فإنه ما زال يفتقد لعدة مرافق أمنية وشرطية، إذ باستثناء مركز الأمن التابع لبنك المغرب، فلا وجود لأي مقاطعة أمنية أو مخفر للشرطة في مختلف أنحاء وسط المدينة. ويقتصر الأمن في هذا الفضاء على بعض الدوريات التي تقوم بها بعض سيارات الأمن الوطني التي ترابض أمام الحانات وبعض المراقص في ساعات معينة من الليل، أو تلك التي تقوم بها بعض السيارات التابعة للمقاطعة الحضرية، والتي يقتصر دورها في الغالب على ملاحقة الباعة المتجولين أو الاكتفاء بابتزازهم أو مراقبتهم عن بعد خاصة في الليل. ولعل هذا العامل هو الذي أسهم في تحويل الفضاء المحاذي لمحطة الترام الرئيسية، وكذا ممر شارع الأمير مولاي عبد الله، المعروف بالبرانس، إلى سوق عشوائي لمختلف الباعة من تين هندي أو حلزون، إلى تجار الملابس بمختلف أنواعها، ولعب الأطفال بمختلف أشكالها... مع ما يرافق ذلك من صخب واكتظاظ وازدحام... الشيء الذي أفقد هذا الفضاء دوره الترفيهي، وأجبر رواده الباحثين عن القليل من الهدوء والترويح عن النفس إلى التوجه نحو فضاءات أخرى كفضاء المعاريف أو فضاء 2 مارس إلى غير ذلك من الفضاءات الأقل ضجيجا والأبعد مسافة. تهالك البنيات التحتية بالرغم من التوسع الكبير الذي عرفه وسط المدينة، حيث أصبحت تخترقه عدة شوارع كبرى (شارع المقاومة، وشارع باريس، وشارع الجيش الملكي وشارع الموحدين)، وترتفع فيه عدة مؤسسات فندقية عالمية (إبيس، ريجنسي، شيراتون ...) ومؤسسات بنكية، بالإضافة إلى برج الأطلس الذي يحتضن مقر عدة مؤسسات إعلامية، وخدماتية،... ويطل على أهم المراكز التجارية للعاصمة الاقتصادية كالميناء و(درب عمر )، فما زال هذا الفضاء يشكو نقصا كبيرا في التجهيزات والبنيات التحتية: فالإنارة العمومية ما زال لم يتم تجديدها، ولم يتم تغييرها بشكل يتلاءم مع الطبيعة العمرانية والهندسية والوظيفية لهذا الفضاء، فوسط المدينة يجب أن يجهز بإنارة عمومية ذات مواصفات خاصة تعتمد على إضاءة جيدة وكاشفة تساعد على ضمان أمن مكونات هذا الفضاء، وفي الوقت نفسه تضفي عليه جمالية خاصة. كما وجب في هذا الإطار أن يتم الإسراع في إنهاء مشروع إعادة تأهيل الممر الأرضي لدرب الكبير أو ما يعرف لدى البيضاويين بالكرة الأرضية وتنميق واجهته الفوقية بإضاءات تجذب إليها الأنظار، وتضفي على وسط المدينة رونقا خاصا في ليالي الدارالبيضاء الصاخبة. كما ينبغي الاتفاق مع المؤسسات الفندقية الكبرى الموجودة في هذا الفضاء أن تهتم بوضع إضاءة بألوان خاصة لبنياتها ستسهم بلا شك في إكساب هذا الفضاء مزيدا من الضوء والتألق. فعلى الرغم من أن بعض الفنادق، كفندقي ريجنسي وإبيس، قد شرعت، منذ فترة غير قصيرة، في تنفيذ هذه العملية؛ فإن الأمر يتطلب أن تحذو كل المؤسسات الفندقية حذو هذين الفندقين. ولضمان تجول آمن ومطمئن لمرتادي هذا الفضاء يسمح لهم بالتحرك بكل حرية واطمئنان بين جنباته ومحلاته، فمن الضروري أن يتم توسيع رصيف وسط المدينة من خلال منع مرور السيارات الخاصة وسيارات الأجرة (خاصة ما يسمى بالكبرى) في أزقة هذا الفضاء في مرحلة أولى، ليتم العمل في مرحلة ثانية على تبليط كل الأزقة التي تخترق ساحة الأمير مولاي عبد الله، وشارع إدريس الحريزي، وكذا الأزقة المؤدية إلى شارع محمد الخامس؛ وهو ما سيسمح بأن يتوفر وسط أكبر مدينة في المغرب على رصيف يليق بحجمه، وذلك على غرار بعض المدن العملاقة كإسطنبول أو شنغاي. ولعل توسيع مثل هذا الرصيف سيسمح بتدشين حركة تجارية واقتصادية وترفيهية في هذا الفضاء، إذ إن هذا التوسيع سيسمح بفتح عدة محلات تجارية ومؤسسات مالية وبنكية، كما سيحول هذا الفضاء إلى قبلة سياحية وترفيهية من خلال فتح العديد من المقاهي أو المطاعم وأماكن ترفيهية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فينبغي العمل على إعادة تأهيل كل الشوارع المؤدية إلى وسط المدينة، كتأهيل شارع الجيش الملكي وشارع الموحدين وشارع باريس وشارع للاياقوت؛ وذلك على غرار ما تم إنجازه بالنسبة إلى شوارع أنفا والمسيرة والمحيط الأطلسي ومحمد الخامس.. مع إعطاء أولوية خاصة على إعادة تأهيل شارع محمد الخامس، بوصفه أحد المكونات الرئيسية لوسط المدينة، حيث ينبغي صباغة واجهة بناياته وعماراته سنويا، والعمل على الإسراع في بناء كل الساحات الفارغة فيه من خلال إنجاز بنايات تحترم الخصوصية الهندسية والعمرانية لهذا الفضاء، بما في ذلك إعادة بناء فندق لنكولن بعدما تم مؤخرا تفويته إلى مجلس المدينة مع الحفاظ على خصوصيته الهندسية والمعمارية. وإجمالا، فقد حان الوقت للإسراع في إعادة تأهيل وسط المدينة كمجال تاريخي ومعماري واقتصادي وترفيهي، وإدماجه في إطار الحركية التي تعرفها العاصمة الاقتصادية سواء على مستوى إعادة تأهيل كورنيشها، وشوارعها ومينائها، ومحطاتها السككية والطرقية، وتوسيع مناطقها الصناعية والمالية، وتجهيزه بكل البنيات التحتية الضرورية، من إنارة وتزفيت وتبليط وصباغة، مع توفير كل الشروط الأمنية التي يتطلبها تسيير وتنظيم هذا الفضاء البيضاوي الذي يبقى متميزا عن غيره من الفضاءات التي لم تستطع تعويض جماليته أو أهمية موقعه، أو رصيده التاريخي والمعماري الذي يشكل تراثا مشتركا للمدينة، ويبعث فيها الروح البيضاوية القحة كمدينة شعبية وعصرية وكسمبوليتية.