يبدو الكتاب من خلال التصفح الخارجي مغريا بالقراءة، خاصة أن العنوان يحيل مباشرة إلى المخبرين الذين يتعقبون المناضلين ويحررون عنهم التقارير في التنظيمات السياسية والنقابية والفصائل الطلابية؛ إلا أن عوالمه المحبوكة بفنية عالية تنقل القارئ إلى فضاءَات رحيبة، وتعود بذاكرتنا إلى أيام الجامعة والشباب. لست ناقدا أدبيا متخصصا، إلا أنني قارئ يختار ما يقرأ بعناية، ويحاول أن ينتج من خلال القراءة ما يمكن أن يفيد غيره من المهتمين. منذ قراءتي الأولى لرواية "تقارير مخبر" لميمون أم العيد، في يونيو 2016، في 208 صفحات من الحجم المتوسط، عن دار توسنا للنشر، اجتاحتني رغبة الكتابة عن هذه الرواية التي أتمنى أن يطلع عليها الطلبة وعموم القراء، لأنها قد تساعدهم على فهم أمور كثيرة.. وإن كانت هذه ليست مهمة الأدب، لكنها على الأقل ستوسع لديهم دائرة الالتباس وتحارب عندهم الكثير من اليقينيات كما تفعل الكثير من الأعمال الأدبية. وثائق سرية عن الفصائل الطلابية بأسلوب مشوق، يوضح الراوي منذ بداية الرواية إلى الصفحة 38 كيفية حصوله على وثائق سرية تتحدث عن شهيد تم اغتياله في الساحة الجامعية، تقارير كتبت بأسلوب روائي بديع، تصف عوالم الطلبة والمناضلين من خلال "قتيل حصل على لقب شهيد بإجماع كل الفصائل". صدفة قادت الراوي ليلتقي بضابط مخابرات سخرته إدارته ليحرر التقارير عن الطلبة، فقدم له ملفا يضم 160 صفحة مكتوبة بخط اليد، تصف الحرم الجامعي وكافة المتدخلين في الحلقيات الطلابية، وتقدم معلومات عن بعض ضحايا العنف الجامعي في السنوات الأخيرة؛ ففكر في تقديم تلك الوثائق للسلطات الأمنية، بدل نشرها، إلا أن استمتاعه بقراءتها، وإحساسه بأن المخبر لم يكن شخصا عاديا يكتب تقارير رتيبة، جعله يجمعها وينشرها في قالب روائي كما كانت رغبة المخبر الذي انتحر لأسباب سوف تتوضح في نهاية الرواية. الشّهيد الذي تفرق دمه بين الفصائل يُعد بطل الرواية "الشهيد عبد النبي عتيريسة" شخصية غامضة، فكل فصيل يعتبره من رجاله المناضلين، ويقدمه في مجلته الحائطية، وفي وثائقه بأنه شهيده. بدءًا ب"حركة الأمازيغ الأحرار"؛ ف"فصيل اليساريين التقدميين"، ثم "فصيل الإسلاميين"، وصولا إلى "فصيل الإسلاميين المجددين"... كل فصيل في الرواية يقدم سيرة ذاتية مغايرة للشخص نفسه؛ يضفي عليها ما يجعل الأتباع يثقون باعتناق الشهيد لمذاهب الفصيل ولأفكاره. هناك بعض الاختلافات في تسمية الرجل، إلا أن السير تتقاطع في نقاط عديدة، وهو ما لمح إليه الراوي في الصفحة 55 بأن "هذه التيارات تتحدث عن الشخص نفسه، ورغبتها في التفرد جعلتها تسبغ عليه لمستها الخاصة". الرواية بين التخيل والواقع قد يجد قارئ رواية "تقارير مخبر" أحداثا واقعية، خاصة إذا خبر الحياة الجامعية؛ ذلك أن الكاتب أقحم في روايته مجموعة من الأحداث التي وقعت بالفعل، مع تغيير بعض السياقات والتوسع في أحداثها وتخيل أحداث أخرى. ونجد بعض الأحداث المتقاربة مع شخصيات بصمت النضال الجامعي، يكون الكاتب استلهم منها بعض الأحداث التي تضمنتها روايته. هذا، دون إغفال الجوانب المتقاربة بين فصائل الإسلاميين على مستوى الرواية والوقائع، إذ نجد معطيات قريبة من فصيل العدل والإحسان وفصيل "الحاص" الذي يتزعمه الشيخ زياد. هذا الأخير في مكانته على مستوى الرواية شبيه إلى حد كبير بالشيخ عبد السلام ياسين في الواقع، من حيث القداسة وقيمته بين مريديه، إلى جانب اعتماد تنظيمه "الوشاج"، الذي يطابقه "الرباط" لدى "العدل والإحسان"؛ وهو الأمر نفسه بالنسبة ل"حركة الأمازيغ الأحرار" و"فصيل اليساريين"، وغير ذلك مما جاء في الرواية. حادثة المؤخرة من سخرية الكاتب في رواية "تقارير مخبر" نجد فصلا يتحدث عن حرب بيطلابية، نتجت عنها اعتقالات بالجملة، وعقوبات تراوحت بين شهر وخمسة عشرة سنة.. أسر دمرت، وأمهات عانين لسنوات مع اعتقال أبنائهن، وهشمت سيارات الدولة، وانقطع الطلبة عن الدراسة لشهور، ليتضح للمخبر الذي كان يعد التقارير عن تلك الأحداث، والسبب في كل ذلك لم يكن ملفا مطلبيا كبيرا، بل خلاف بسيط بين مناضلة وصديقها في ليلة جنسية، لتتطور الأمور إلى هجران، وانتقام بربط علاقة مع مناضل من فصيل آخر، ثم تبدأ الحروب ومعارك إعادة الاعتبار. انقطع الطلبة عن الدراسة، وكسرت الأرجل والرؤوس وسجن الشبان دون أي سبب واضح.. سمى فصيل تلك المعركة بمعركة "الكرامة"، وسماها الفصيل الآخر "معركة النصر"؛ وسماها رجال الأمن في سجلاتهم "حادثة المؤخرة". المظلومية والحاجة إلى شهيد تتحدث الفصول الأخيرة من الرواية عن طالب يدعى وديع خيار، وهو الطالب رقم 8 حسب الرواية الذي يلقى حتفه في الصراعات الطلابية الإيديولوجية. وخلال فصل كامل توضح الرواية كيف استغل فصيل موت شاب ليسجل النقط على الخصوم، من خلال الرسائل القوية التي بعتها للدولة، رغم أن الطالب المتوفى، الذي كان يدرس بسنته الأخيرة، قتل على أيد لصوص دخل معهم في مواجهة مفتوحة بعدما أرادوا أن يسلبوه ماله، إذ ألصق الوفاة بالمنافسين، وأعلن الحرب على الفصائل المناوئة. الشهادة بين الحقيقة والادعاء لا يمكن أن تحضر حلقية طلابية مهما كان الفصيل الذي يسيرها دون أن تستمع لفظة شهيد ألف مرة، وهي كلمة تقرن بأي اسم، سواء كان يستحقها أو لا. ودون أن يتساءل الطلبة عن حقيقة بعض السير التي يتم نسبها لمجموعة من الأشخاص، يتم ترديد مجموعة من الأسماء مقرونة بلقب شهيد، لرغبة الفصائل في استمالة الأتباع بادعاء المظلومية؛ فالفصيل الذي يضم أكبر عدد من "البكائين" بتعبير الرواية هو الفصيل الذي لديه أكبر عدد من الشهداء ولو تلفيقا. إن رواية "تقارير مخبر" للروائي والصحافي ميمون أم العيد تخلق لدى قارئها شعورا غريبا، ولا ينصح بقراءتها، خاصة للذين يعتبرون بعض "الحقائق" كمُسَلمات نضالية لا تقبل التشكيك.. إنها باختصار دعوة لتقبل الآخر المختلف عنا، حتى وإن كان ما نعتقده مناف تماما لما نعتبره الحقيقة المطلقة، التي لا أحد يملكها. يُذكر أن "تقارير مُخبر" هي الكتاب الرابع للكاتب والصحافي ميمون أم العيد، بعد كل من "يوميات أستاذ خصوصي" سنة 2012، "أوراق بوكافر السرية" 2014، و"شهيد على قيد الحياة" الصادر سنة 2015. *أستاذ بثانوية أبي العباس السبتي. مراكش