عدَّ الأكاديمي عبده الفيلالي الأنصاري اكتشاف الدساتير الحديثة من أهمِّ المنعطفات في تاريخ المسلمين الحديث، وقالَ في محاضرة احتضنها مقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود، مساء أمس السبت، إنّها أوْجدت لهم وسيلة ظلوا يبْحثون عنها لتحقيق مَطْمح إقامة مجتمع تسودُ فيه العدالة. وإذا كانَ كثير من المسلمين يعدُّون "صحيفة المدينة" أوَّل دستور في تاريخ البشرية، فإنّ الأنصاري يرى أنَّ "المسلمين انبهروا بالدساتير الحديثة في بداية القرن العشرين، لأنهم اكتشفوا أن هذه الدساتير تقدم الحلَّ الذي بحثوا عنه لتنظيم وتدبير شؤون مجتمعاتهم". وذهب الأنصاري، الذي كانَ أستاذا للتعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومديرا لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية بالدار البيضاء، وله عدد من المؤلفات، إلى القول إنَّ "تاريخ المسلمين كان نوعا من الحرب الأهلية المستمرة". وحينَ حديثه عن التداول على السلطة لدى المسلمين قال: "اتخذوا الدين الإسلامي كوسيلة لبناء مجتمعات تقوم على المبادئ والأخلاقيات، لا على مبدأ قَبَلي أو غلبةٍ عسكرية، ولكنَّ طريق بلوغ هذه الغاية كانت مليئة بصراعٍ كبير". وعن واقعٍ المسلمين الراهن قالَ الأنصاري إنَّ هناك عُنفا أشدُّ وطأة وأخطر من "العُنف الإسلامي" الذي يجري الحديث عنه، ويتعلّق بالمقاربات التقليدية المنغلقة على نفسها التي تعتمدها مَا سمّاها ب"الجماعات الضاغطة"، في عدد من القضايا المُثارة، مثل التعليم الديني واللغة وغيرها. واسترسل: "هذه الجماعات المنغلقة على نفسها تُحدّدُ مجالَ النقاش في عدد من المسائل، وليست لديها قابليّة للحوار، وهذا العنف الممارس على المجتمع أشدُّ خطورة، ولوْ أنه قد يكون صادرا عن حُسن نية، كأنْ يكون الهدف منه الدفاع عن الدّين والهوية والثقافة، لكنّه يحملُ نتائج عكسية". الأنصاري أشارَ إلى المواقفِ المتصلّبة التي يُبديها دعاةٌ وفقهاء دين مسلمون في البرامج الحوارية والمناظرات التلفزيونية على الفضائيات العربية، مقارنة مع رجال الدّين المسيحيين واليهود، وقال: "القسّ المسيحي والحِبْرُ اليهودي أكثر انفتاحا، بينما الذين يتحدثون باسم الإسلام، دونَ تعميم، يكرّرون خطابا تقليديا، دونَ فتْح باب الحوار، ودون الانفتاح على العلوم الطبيعية". في هذا السياق، دعَا الأنصاري إلى "الاحتراس من فكرة المعرفة في المجال الديني"، موضحا أنّ "مجالَ الدين ليسَ مثل الطبيعة، وليسَ كتاباً مفتوحا أمامنا يُمكن قراءته". وأردف أنّ الفيلسوف ابن رشد رسَم طريقا للمسلمين في هذا الميْدان ينبغي عليهم الاقتداء به؛ "إذ اعتبر أنَّ ادّعاء المعرفة بالغيبيات ومحاولة نشر تلك المعرفة للجمهور يخلق بلبلة ولا يوصل إلى نتيجة". ويرى الأنصاري أنّ "مجال الإيمان ليْس للتقصي والبحث والنقاش، بل يجبُ القَبول به كما هو، وقدْ دافع ابن رشد، الذي كانَ عقلانيا، عن هذه الفكرة، لكنّ المسلمين لم يفهموا مُراده وقصْده". من جهة أخرى، وجوابا على سؤال عن رأيه في مسألة "الخصوصية المغربية"، قالَ الأنصاري إنَّ المسارات التاريخية تختلفُ من مجتمع إلى مجتمع، مُستحضرا ردّ فعل سكّان المغرب الأمازيغ عند وصول المسلمين الأوائل؛ حيثُ وُوجهوا بمقاومة شرسة. لكنّ هذه المقاومة، يُردف المتحدّث، سُرعان ما تحوّلت إلى تعايُش بين الطرفين؛ حيث تمَّ اعتمادُ مبادئ الدين الإسلامي لمواجهة الغُزاة الغربيين، موضحا أنَّ هذه الازدواجية في الموقف تنطوي على التشبث بالمبادئ. وشرح الأنصاري ستنتاجه بالقول: "لقد كانت هُناك فُرص أمام الأمازيغ للحفاظ على لُغتهم والكتابة بها بعد وفادة المسلمين، كمَا فعَلَ الفُرْس، لكنهم فضّلوا الكتابة بالعربية اقتناعا بأنَّ الإسلام هو الأساس، وبأنّ العربية هي الوسيلة لتبليغ رسالته"، مضيفا أن "الموقفُ الديني هو الذي دفع إلى هذه القناعة".