شكل قرار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بعدم الترشح لولاية رئاسية ثانية في فرنسا إحدى المفاجآت التي انضافت إلى تلك التي عرفتها الأحداث الماضية، وبالخصوص انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وانتصار دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، وفوز فرانسوا فيون في الانتخابات الأولية المتعلقة باليمين في فرنسا. علاوة على قبول الرئيس الغامبي يحيي جامح، الذي حكم البلاد بيد من حديد لمدة 22 سنة، بنتائج الاقتراع التي أفضت إلى فوز مرشح المعارضة أدما بارو. وقد تنضاف إليها أشياء غير متوقعة. بصرف النظر عن عدم وجود أي خط رابط بينها، فإن هذه المفاجئات، مع ذلك، تؤشر على بعض المعطيات التي تبرز التعقد الذي يرتبط بالإدراك لدينامية التطور. بصفة عامة، فإن ما وقع يعيد طرح النقاش النظري حول توقعية أو عدم توقعية الأحداث بوصفها مغذية للتاريخ. وقد برز هذا النقاش إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، وما رافقه من تداعيات بنيوية استنفرت مجموعة من كتابات مفسرة، لعل أبرزها كتاب فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ، الذي صاغه من خلال عنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير". لكن هذه الأطروحة ووجهت بانتقادات كبيرة، لعل من أبرزها الأطروحة المضادة التي صاغها فيما بعد صامويل هانتغتون حول صدام الحضارات، والتي اعتبر فيها أن العالم إذا كان قد عرف نهاية تاريخ، وليس التاريخ، فإن الأحداث أكدت من جديد استمرار الصراع بشكل يجعل معه من الصعب، مهما كانت دقة الأدوات وبراعة التحليلات، توقع بعض الأحداث، دون أن يعني ذلك السقوط في نوع من "اللا أدرية" التي تعتبر أن كل عملية توقعية غير ممكنة. وبقطع النظر عن هذا النقاش الفلسفي والنظري حول التحكم في مجريات الأحداث، فمن الناحية العملية يمكن طرح بعض القضايا حول الوقائع الأخيرة التي لم تكن نتائجها منتظرة رغم أنها كانت تحمل في ثناياها بعض إرهاصات تحققها. تعقد الظواهر وتنوع مؤشرات إدراكها من الواضح أن ما يسمى بالعولمة قد فتحت آفاقا وفرصا جديدة، وأخرجت الإنسان من جغرافيته الضيقة قاذفة به في غياهب العالم. فبفضل التطورات الهائلة في مجال الاتصال، أصبح الإنسان أكثر تفاعلا بشكل لحظي مع كل ما يجري في العالم. لكن هذا التفاعل ولّد مشاعر متضاربة، وزاد من قلق الفئات الهشة خاصة، لا سيما عندما تواجه ما قد تعتبره غزوا من طرف قوى خارجية على هويتها، وعلى استقرارها الاجتماعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، برزت مشكلات معقدة عدة، كمشكلة الإرهاب وما يرتبط بها من تطرف ديني، ومشكلة اللاجئين الناجمة عن النزاعات التي تشهدها بعض الدول، فضلا عن الإدراك المتباين لسياسات الانفتاح، وكذلك سياسات التقشف التي تنهجها بعض الدول في محاولة لإعادة تنشيط الاقتصاد، وخاصة مواجهة شبح البطالة. هذه القضايا وغيرها من محاولات الإصلاح، خاصة في ما يتعلق بالحقوق الشخصية، أفرزت مشاعر متباينة لدى الفرد والقوى السياسية بشكل يجعلها غير قادرة على الإتيان دائما بمواقف مستدامة. الأمر الذي يضعف حقل التوقع، ويجعل من الصعب تحديد المؤشر الأساس الذي يتحكم في سلوكيات الناخب. ومن ثم غالبا ما يبقى التحليل منصبا على فرضيات، من قبيل أن ترامب في الولاياتالمتحدة قد نجح بفعل برنامجه الحمائي في مواجهة سياسة الانفتاح القائمة على التبادل الحر، وعلى إعادة عظمة أمريكا، وإذكاء قيم محافظة تتعارض والنزعات اللبرالية، وأن فرانسوا فيون يدين كثيرا للقوى المحافظة، سواء منها الكاثوليكية أو تلك المتوجسة من انعكاسات الانفتاح وتراجع هيبة الدولة. وإذا كان من الصعب قياس مدى تأثير كل هذه العناصر على النتيجة النهائية، فمن الواضح أن الانعكاسات السلبية للعولمة بكل أبعادها قد زادت من النزعة الانطوائية والحمائية والمحافظة بأشكال متنوعة. فشل استطلاعات الرأي في كل هذه الأحداث، كانت استطلاعات الرأي ووسائل الإعلام تشير إلى توجه كان يبدو مهيمنا قبل أن تكذبه الوقائع. فقد كانت تؤكد على غلبة الاتجاه الداعي إلى بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوربي. وكانت تعتبر أن فوز كلينتون بات شبه مؤكد رغم تطور شعبية ترامب. وفي فرنسا كان الاتجاه السائد هو حصول مواجهة في الدور الثاني بين الرئيس السابق ساركوزي وألان جوبيه، ولم يكن أحد يفكر بشكل جدي في النتيجة التي سيحصل عليها المرشح فرانسوا فيون. والشيء نفسه بالنسبة لقرار الرئيس هولاند؛ فقد كان مستبعدا ألاّ يترشح، خاصة أن بعض المؤشرات، ومنها ما يتعلق بتراجع مستوى البطالة خلال هذه السنة الأخيرة من فترته الرئاسية، كانت تتأكد شهرا بعد آخر، ولو ليس بالمستوى المطلوب. في كل هذه الأحداث فشلت، بدرجة أو أخرى، مؤسسات استطلاع الرأي في توقع ما حصل. ويؤكد هذا الأمر أن هناك خللا ما؛ فقد ظلت هذه الوسائل إحدى الأدوات الرئيسة لقياس تطور إدراك المواطن للأحداث وللفاعلين داخلها. ولا تستقيم الديمقراطية بدون هذه الوسائل لكونها مبدئيا تمكن صانع القرار ورجل السياسة من التفاعل مع ردود فعل المواطن. وقد بذلت جهود ملحوظة من أجل تحسين منهجية هذه الأدوات، حتى يتم تقليص هامش الخطأ في بنتائجها. لكن الأحداث الأخيرة جعلتها موضع نقاش، إن لم نقل وضعتها في قفص الاتهام. هل يتعلق الأمر بصعوبة توقع ردود فعل المواطن بفعل المشاعر المتضاربة التي باتت تخيم عليه كما أشرنا إليه سابقا؟ أم بنقص في ما يتعلق بأدوات اشتغالها؛ أي ضعف ما يسمى بالعينة المختارة عن التعبير عن حقيقة اتجاهات الرأي؟ أم إن الأمر يعود إلى ابتعادها عن الواقع المعاش للمواطن بفعل التقارب، إن لم نقل التواطؤ الذي حدث بين السياسي وبين عالم الصحافة؟ على الرغم من ادعاء مجمل الصحافيين التوجه نحو الحياد والموضوعية الضرورية لعمل الوسائط، نلاحظ، بصفة عامة، أن هذين العالمين باتا يعيشان في نوع من البؤرة البعيدة عما نسميه بالمجتمع العميق. صحيح أن الصحافة ما فتئت تنتقد رجل السياسة وتتبع تصرفاته إلى حد التحرش، لكن في العمق عدد من الصحافيين النافذين لا يترددون في القيام بالممارسات نفسها. وربما قد يولد هذا الأمر نوعا من الغربة والانسلاخ عن الواقع. سلطة الناخب لقد أكدت هذه الأحداث حقيقة بديهية باتت تسود اليوم داخل أغلب الأنظمة، وهي تكمن في سلطة المواطن في تحديد قراراته مهما كانت درجة نفوذ هذه الوسائط. فالاقتراع العام هو أولا وأخيرا سلاح في يد المواطن يعبّر من خلاله عن إرادته مهما كانت درجة التأثير الإعلامي أو الرغبة في التأثير عن إرادته. وبشكل إجمالي فقد حررت أدوات التواصل الجديدة سلطة المواطن، ووسعت من استقلالية خياره بشكل جعل عنصر المفاجأة قد يتوسع في الحالات التي كان السياسي أو الإعلامي يعتقد أنه قادر على توجيهها. فما حدث في جمهورية غامبيا الفقيرة من تصويت ضد الرئيس الحالي، وقبول هذا الأخير، إلى حد الساعة، بنتائج الاقتراع الرئاسي، يؤكد تزايد دور الناخب في تحديد الديناميات السياسية رغم الإكراهات المتعددة، وأشكال المقاومة المتنوعة. فبصفة عامة، يشعر المواطن بنوع من خيبة الأمل من إدراك عدد من الفاعلين السياسيين لهمومه وانشغالاته، وانصرافهم إلى تدبير مصالحهم الخاصة. وبفعل ذلك باتت التيارات الشعبوية أكثر إغراء، خاصة عندما تقترح برامج انتخابية مليئة بالوعود وإعادة الأمل لكائن محبط وخائف من المستقبل، وغالبا ما تركز هذه القوى الشعبوية، سواء تعلق الأمر باليمين أو اليسار المتطرف، على تشويه ما يسمى برجال المؤسسة الذين لا يقترحون إجراءات ناجعة لحل المشكلات، وتقدم نفسها كبديل يتوفر على الطهارة والنزاهة والبكارة التي افتقدها المدبرون الممارسون للشأن العام. عمل القرب لكن هل ما وقع يعني بشكل مطلق أن نسبة التوقع لم تكن قائمة؟ الأمر ليس بهذه البساطة. في كل هذه الحالات نحن أمام تيارات متضاربة. وربما كان الرابح منها هو الذي قام بعمل لتجنيد المجتمع العميق مستفيدا من حالة الإحباط التي باتت تسيطر على المواطن بفعل عجز المؤسسات على الاستجابة لحاجياته، ولاعتقاده أنها مستمرة في احتقاره. لقد نجح ترامب بفعل اختياراته الشعبوية وبتوجهه نحو الولايات المترددة، وكذلك استفاد من النظام الانتخابي الأمريكي الذي يقوم على القاعدة التي ترتكز على أن الفائز يحصل على جميع المقاعد. الأمر نفسه يؤكده فوز فيون في الانتخابات الأولية. فهو يشير إلى أنه بدأ منذ ثلاث سنوات في التفاعل مع انشغالات المواطن عبر القرب، لكن أكثر من ذلك، فإن برنامجه اليميني المحافظ، خاصة في ما يتعلق بالقيم، قد أغرى عددا من الناخبين اليمينين أو من الوسط للتصويت له على حساب منافسيه، وخصوصا جوبي الذي ولدت لديه وسائل الاستطلاع والإعلام أنه المرشح الأول بامتياز، مما جعله، كما أقر بذلك بنفسه، لا يعطي الأهمية الكبيرة لبعض المؤشرات التي كانت تفعل فعلها في تشويه صورته وتراجع شعبيته، كما هو الأمر مثلا بالنسبة لوصفه بعليّ جوبي، كادعاء على تساهله مع الاتجاهات الإسلامية المتطرفة في مدينة بوردو التي يديرها كعمدة منذ سنوات. في السياق نفسه، يظهر قرار الرئيس الفرنسي لأول وهلة مفاجئا، لكنه في العمق يبدو قرارا فرضته ضرورة التأقلم مع معطيات شخصية وموضوعية. لقد قال بعض المحللين إن الرئيس هولاند بات في بذلة أكبر منه؛ فانخفاض شعبيته بشكل مذهل بالرغم من الجهود التي بذلها، وتزايد المنافسين من داخل معسكره، أشّرا على احتمال عدم فوزه حتى في الانتخابات الأولية لليسار، التي كان من المفروض عليه أن يشارك فيها، وهي سابقة تبين بلا مراء ضعفه في فرض نفسه كمرشح طبيعي للاشتراكيين، ولليسار عموما. ومن ثم، فإنه بات أمام خيارات صعبة، ربما قرر في نهاية المطاف أن ينسحب حتى يبقى على بعض من تقدير التاريخ. بصفة عامة، إذا كان من الضروري الإقرار بصعوبة قياس تأثير كل عنصر في دينامية الأحداث، فمن الواضح أن حقل التوقع بات، أكثر من أي وقت مضى، يواجه صعوبات في ضبط مجال اشتغاله.