المساجد بيوت الله للعبادة والمكان الطبيعي للتغذية الروحية وبعث الطمأنينة في النفوس والقلوب. ومن الأخطاء التي لازالت ترتكبها وزارة الأوقاف ، رغم الخطة الجديدة التي وضعتها في إطار هيكلة الحقل الديني وبسط الإشراف على كل المساجد بعد الأحداث الإرهابية ليوم 16 ماي 2003 ، فإن هذا الإشراف لازال يعرف اختلالات كثيرة على مستوى الخطاب الإيديولوجي وفقه التكفير وثقافة الكراهية وغيرها من عناصر الفتنة التي يبثها كثير من الخطباء مستغلين منابر الجمعة وحالة التسيب التي يعرفها الحقل الديني رغم تشديد الملك في أكثر من خطاب على ضرورة مواجهة التسيب بكل حزب: (لقد دقت ساعة الحقيقة معلنة نهاية زمن التساهل في مواجهة من يستغلون الديمقراطية للنيل من سلطة الدولة، أو من يروجون أفكارا تشكل تربة خصبة لزرع أشواك الانغلاق والتزمت والفتنة) خطاب 29 مايو 2003. كل الخطابات المتشددة وفتاوى التكفير التي تغزو الخطاب الديني المبثوث من منابر المساجد والمواقع الإلكترونية أمام سمع الوزارة الوصية والمجلس العلمي الأعلى ، لم تزد الفقهاء والأئمة الذين يخفون عقائدهم إلا جرأة على الدولة وعلى الدين والقانون والدستور. إذ كيف تسمح المجالس العلمية المحلية ومعها الوزارة الوصية للخطباء بالتحريض على الكراهية ضد فئات من المواطنين لهم قناعاتهم الفكرية يضمنها لهم الدستور ؟ وكيف لهذه الجهات ألا تدقق في اختيار الأئمة والخطباء وفق المعايير التي حددها الخطاب الملكي الذي وجهه للمجلس العلمي الأعلى يشدد فيه على ضرورة اختيار العلماء (مشهود لهم بالإخلاص لثوابت الأمة ومقدساتها، والجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر، حاثين إياهم على الإصغاء إلى المواطنين، ولاسيما الشباب منهم، بما يحمي عقيدتهم وعقولهم من الضالين المضلين)؟ فأن يتولى خطيب استغلال المنبر ليناهض حقوق المرأة وإدماجها في التنمية أو ليستعدي عليها وعلى حقوقها فئة المصلين ضدا على الاختيار الحداثي الذي انخرط فيه المغرب وكرسه الدستور ، ليس له من معنى سوى عودة المغرب إلى زمن التسيب ؛وهو تسيب أخطر مما كان عليه الأمر قبل 2003 ، بحكم ما بات يتمتع به المتطرفون من حماية وتجييش لصالحهم. ذلك أن الحكومة المنتهية ولايتها وفرت الحماية القانونية والسياسية لكل الخطباء المتطرفين، بحيث ظلوا في منأى عن أية متابعة قضائية بتهمة التكفير والتحريض على القتل ،وإذا ما حدثت متابعة فإنها تنتهي بحكم صوري يشجع باقي المتطرفين على حذو شيوخهم ونظرائهم. بل إن بيانات التنديد وبلاغات المطالبة بمحاكمة شيوخ التطرف ودعاة الكراهية لم تزد الحكومة إلا إصرارا على حمايتهم وتوظيفهم لخدمة أجندة حزب العدالة والتنمية، سواء لتعطيل الدستور ،خاصة في مواده المتعلقة بالحريات الفردية أو بالمناصفة أو بتجريم الكراهية ، أو فيما يتعلق بتكميم الأفواه. أجندة تقوم ، إذن ،على ترهيب المواطنين والتفرقة بينهم. لكن ما حدث يوم الجمعة 1 ديسمبر 2016 ، بفاس حين أقدم أشخاص على منع الخطيب الجديد الذي عينته وزارة الأوقاف مكان الخطيب المعزول، ثم تهييج المصلين ودفعهم إلى الاحتجاج عبر مقاطعة صلاة الجمعة ، ليشكل نقلة خطيرة فيما يتعلق بالصراع الذي يعرفه الحقل الديني بين إمارة المؤمنين وهيئات الإسلام السياسي (دعوية وحزبية). إذ بات الصراع الذي تخوضه هذه الهيئات مكشوفا ضد وزارة الأوقاف بغاية منعها من تفعيل إجراءات العزل ضد الخطباء الذين يخرقون القانون ولا يلتزمون بالضوابط التي وضعتها الوزارة . ويذكرنا هذا الصراع بما شهدته تونس عقب ثورة الياسمين حيث هيمن تيار الإسلام السياسي مدعوما بتيار التطرف على معظم المساجد فعزلوا الخطباء الرسميين ونصّبوا أماكنهم خطباء يخدمون أجندة التيار، حتى انتهى الأمر إلى تحويل كثير من المساجد إلى بؤر للإرهاب ومقرات تؤوي الإرهابيين. هذا الوضع فرض على السلطات التونسية أن تواجه بصرامة ،بعد إسقاط حكومة النهضة التي حمت المتطرفين، حيث تم تأميم المساجد وإخضاعها لرقابة الدولة. ولا شك أن المغرب سيعرف نفس الانحراف الذي عرفته تونس أو مصر أو ليبيا حيث سيطر التيار المتطرف على أغلبية المساجد . لهذا على الدولة أن تستحضر مآسي الفتن الطائفية التي تعاني منها شعوب عربية بعد أن فقدت حكوماتها السيطرة على المساجد ، لتتخذ سلسة من الإجراءات الصارمة ضد جميع الخطباء الذين يشعلون نار الفتنة في الوطن ويسعون خرابا في الأرض عبر بث خطاب الكراهية والتكفير بين المواطنين. وليعلم القائمون على الحقل الديني وعموم المواطنين: 1 إن كثرة المساجد ترفع عن المصلين أي حرج من الصلاة خلف إمام لا يطمئنون إليه ؛ ومن ضاق من إمام أو انزعج منه أو لم يستعذب خطابه غيّر المسجد والخطيب ، وله في كل خطوة يخطوها حسنة كما جاء في حديث نبوي شريف رواه أَبِو هُرَيْرَةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَهُ حَسَنَةٌ ، وَتُمْحَى عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ ). 2 إن المساجد لله وليست لأية جهة أو هيئة غير تابعة للدولة . وإذا تراجعت الوزارة عن قرار عزل خطيب فإن هذا سيشجع فصائل التيار الإسلامي على حشد المصلين لمزيد من الضغط على الوزارة حتى ترفع أيديها عن المساجد ؛ وفي هذا خطر حقيقي على الأمن الروحي لعموم المغاربة ثم على الأمن العام . 3 ليس من اختصاص المصلين تعيين الأئمة والخطباء ولا من اختصاص أي هيئة غير رسمية وتابعة للدولة ، وإلا سيكون لأي حركة أو جهة أن تعين خطباءها ، وتلك بداية انهيار الثوابت التي يجمع عليها المغاربة . 4 إن الاحتجاج ضد عزل خطيب هو تمرد على الدولة ممثلة في وزارة الأوقاف ، وتمرد على المؤسسات الدستورية وعلى القانون . فالدولة هي الجهة الوحيدة المسئولة على حماية المجال الديني وتنظيم وضمان حرية أداء الشعائر الدينية وتوفير الأمن الروحي للمغاربة . فالمسجد هو مؤسسة كباقي مؤسسات الدولة يخضع للقانون وليس للفوضى. 5 إن أشد ما يهدد أمننا الوطني والروحي واستقرارنا هو التطرف والإرهاب ، وهما معا من إفرازات عقائد الغلو وصناعة شيوخ الكراهية وأمراء الدم. ويعد المسجد المكان المثالي الذي يحوله المتطرفون حاضنة لتفريخ الإرهابيين . 6 إن حالة التسيب هذه هي تطاول على اختصاصات إمارة المؤمنين وتجاوز لها وتهميش . فأول من يتضرر هي مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها الجهة الوحيدة التي ينيط بها الدستور السلطات والصلاحيات الدينية. وما يزيد من هذا التطاول أن توجيهات الملك بصفته أمير المؤمنين ، وأوامره لا تلقى تفعيلا أو أجرأة في الحقل الديني ، والدليل أنه الملك سبق وأعلن أن المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه هو المخول بإصدار الفتاوى ، فإذا بنا نجد كل من هب ودب يفتي بتكفير المؤسسات الدستورية والوزراء والمثقفين والسياسيين والفنانين ؛فتاوى تملأ المواقع الالكترونية من أشخاص معلومي الهوية دون أدنى متابعة أو حتى تحقيق. إذن، أمام إمارة المؤمنين ، بما يمنحها الدستور من صلاحيات ، مسئولية القطع مع حالة التسيب التي يعرفها الحقل الديني حتى لا تتحول مساجدنا إلى جيوب لمقاومة الحداثة والديمقراطية، أو منابع لنشر ثقافة الكراهية وبذور الفتنة الطائفية والمذهبية .