مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن عزم المغرب استعادة عضويته داخل الاتحاد الإفريقي خلال القمة السابعة والعشرين التي انعقدت بكيغالي، بدأت فصول معركة جديدة بين الدبلوماسية المغربية وبعض الجهات النافذة من داخل الاتحاد الإفريقي لعرقلة هذا المسعى. ومع مرور الوقت، بدأت هذه المعركة تزداد شراسة، خاصة مع المكاسب الدبلوماسية الكبيرة التي يحققها المغرب ونجاحه في كسب تأييد 28 دولة إفريقية، ومطالبتها الرسمية بعودة المغرب إلى الكنف الإفريقي. الزيارات المكوكية التي يقوم بها العاهل المغربي إلى العديد من الدول الإفريقية، ونجاحه في اختراق دول وزانة بالقارة السمراء، خاصة بشرقها، شكلت أيضا عنصرا ضاغطا في معركة كسر العظم بين الطرفين. أولى إرهاصات المواجهة بين المغرب والمفوضية الإفريقية جسده الاتصال الهاتفي بين الملك محمد السادس والرئيس التشادي الذي تترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي. خلال هذا الإتصال كان سؤال العاهل المغربي مباشرا: لماذا لم يتم توزيع الطلب المغربي للانضمام إلى المنظمة الإفريقية؟ الجواب عن السؤال جاء من السيدة دلاميني زوما التي أكدت بأن طلب المغرب سيتم توزيعه على مجموع أعضاء الاتحاد الافريقي ابتداء من رابع نونبر 2016، بعد ذلك سيتبين أن المشكل أعمق بكثير من مجرد توزيع البيان من عدمه. أقل من شهر على هذا التأكيد، صدر هذه المرة بيان شديد اللهجة من وزارة الخارجية المغربية، تستنكر فيه ما اعتبرته "مناورات" متواصلة للمسؤولة نفسها، باعتبارها رئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي، متهة إياها صراحة وبشكل مباشر بكونها "تسعى إلى عرقلة عودة المملكة إلى الاتحاد الإفريقي" من خلال "افتعال" شرط لا أساس له، لا في مواثيق ولا في ممارسات منظمة الاتحاد الإفريقي. لكن البيان هذه المرة لم يوضح طبيعة هذا الشرط ولا سبب رفض المغرب الانصياع له. الحقيقة أن السيدة زوما لم تفتعل الشرط المشار إليه كما جاء في البيان، لكن في المقابل، وكما أشار بيان الخارجية المغربية، فإنها لم تكن محايدة ولا نزيهة في التعامل مع الطلب المغربي. فالفصل الرابع من القانون التأسيسي أشار، في الفقرة الثانية منه، إلى أن احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار يعتبر أحد مبادئ الاتحاد الإفريقي. الفصل 29 من القانون التأسيسي، الذي يوضح شروط العضوية داخل الإتحاد، يلزم كل دولة إفريقية ترغب في الحصول على العضوية بالاتحاد أن تشعر رئيس المفوضية برغبتها في "الانخراط" بالقانون التأسيسي والحصول على العضوية داخل الاتحاد. وبالتالي، فإن الربط بين الفصلين، حسب تفسير السيدة زوما للصياغة التي تمت فقط باللغتين الفرنسية والإنجليزية للنظام التأسيسي، يفرض على المغرب أن يعلن صراحة اعترافه بالحدود الموروثة عن الاستعمار، قبل أن يقدم طلب الحصول على العضوية داخل الاتحاد. بمعنى آخر، فالمغرب، إلى حد الساعة، ودائما حسب السيدة زوما، لم يتقدم بعد رسميا بطلب العضوية داخل الاتحاد، مادام لم يقدم ما يفيد انخراطه بمبادئ الاتحاد، وخصوصا احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار. وبالتالي، وحسب القانون التأسيسي في ظل الاجتهاد الذي عبرت عنه السيدة زوما، فعلى المغرب أن يعلن صراحة عدم سيادته على صحرائه المسترجعة بعد الاستعمار، مما يعني عمليا، وبشكل يدعو إلى الاستغراب، أن هذه السيدة قد استطاعت أن تجد حلا نهائيا لمشكل الصحراء المغربية. قبل الخوض في الجانب القانوني للمشكل، والتناقض الصارخ الذي وقعت فيه السيدة زوما، فإن طرحه في هذا الوقت بالذات يعطي تأكيدات واضحة للمتتبعين حول الهدف الحقيقي من وراء إنشاء الاتحاد الإفريقي على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية، وكيف تآمرت قلة قليلة من الدول الإفريقية على صياغة هذا التحول، ووضع ألغام قانونية بداخل قوانينه تحول دون عودة المغرب إلى التجمع الإفريقي، وهو ما يحدث الآن بالضبط. لكن للأسف الشديد، لم يكتب للشخصين اللذين قاما بهندسة هذه المناورات ليعيشا ويدركا نجاعة استشرافهما للمستقبل، فأحدهما التحق بالرفيق الأعلى، والآخر ربما مازال ينتظر، لكنه قد فقد كليا حاسة الإدراك، رغم إجباره على الاحتفاظ بكرسي الرئاسة. ما تعتبره السيدة زوما شرطا مسطريا، هو في حقيقة الأمر تفسير مزاجي للنصوص القانونية المنظمة لعمل الاتحاد الإفريقي. فالدبلوماسية المغربية كانت تدرك خطورة الفقرة الثانية من الفصل الرابع للقانون التأسيسي. وبالتالي فهي قبل أن تتقدم بطلب العضوية بشكل رسمي، كانت قد ضمنت الحصول على تأييد عدد كبير من الدول الأعضاء يفوق الأغلبية، واعتبرت في اجتهاد قانوني منطقي وسليم تضمنه بيان الخارجية المغربية الأخير أن "الموافقة الكاملة للغالبية العظمى للدول الأعضاء تفوق بشكل كبير تلك المنصوص عليها في القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي". وبالتالي فالمقاربة التي اعتمدها المغرب في تجاوز العراقيل التي يضعها القانون التأسيسي، والتفسير الضيق والمنحاز للسيدة زوما، تنبني على مبدأ الشرعية الواقعية على الأرض، عوض التفسير العقيم لفقرة داخل فصل قانوني وضع بطريقة تعسفية ولغايات معروفة. ولذلك، فبيان الخارجية المغربية أكد من جهة أخرى أن "هؤلاء الأعضاء سبق لهم أن وجهوا لرئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي رسائل دعم، رسمية وسليمة قانونيا لقرار عودة المغرب إلى المنظمة الأفريقية ابتداء من القمة المقبلة". مما يعني أن التشبث غير المبرر لرئيسة المفوضية بتطبيق مضمون الفقرة الثانية من الفصل الرابع، يتناقض تماما مع إرادة الدول الأعضاء، ويوضح، حسب ما جاء في البيان ذاته، "تناقض رئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي مع واجبها في الحياد ومع قواعد ومعايير المنظمة وإرادة بلدانها الأعضاء". وهنا نتساءل: أين كانت الفقرة الثانية من الفصل الرابع من القانون التأسيسي عندما تقدم جنوب السودان للحصول على العضوية داخل الاتحاد الإفريقي، وإلا، فيجب على رئيسة المفوضية أن تدلى للرأي العام الإفريقي بنسخة من مصادقة واعتراف جنوب السودان بالحدود الموروثة عن الاستعمار، الشيء الذي لم يحدث بالطبع. قد يقول قائل إن جنوب السودان قد انفصل عن السودان الأم بعد إجراء استفتاء، لكن، دائما حسب التفسير الضيق للفقرة الثانية المشار إليها الذي تتشبث به رئيسة المفوضية لعرقلة دخول المغرب، لا يوجد في هذه الفقرة ولا في كل فصول القانون التأسيسي ما يشير إلى استثناء الدول التي تنفصل عن أخرى للحصول على هذه العضوية دون المرور عبر الفقرة الثانية، وإلا فإن المغرب سيكون أكثر أحقية بأن يستفيد من هذا الاستثناء بتاريخه، واعتباره، أكثر من ذلك، أحد مؤسسي هذا التجمع الإفريقي في صيغته الأولى. إن السرعة التي تم بها البت في طلب العضوية الذي تقدم به جنوب السودان، وعدم إخضاعه لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل الرابع، تعكس سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها قلة قليلة من داخل الاتحاد الإفريقي، لكن الخطير أن هذه القلة القليلة التي تعمل رئيسة المفوضية الإفريقية على تنفيذ أجندتها ترهن مستقبل الاتحاد ومعه مستقبل القارة الإفريقية بشعوبها وتطلعاتها وفق منظور ضيق، كما أنها في سبيل تلبية نزواتها، وإشباع حقدها الدفين في معاكسة الوحدة الترابية لبلد أفريقي واحد، سوف لن تتورع في تشتيت بلدان إفريقية وشن حروب أهلية طاحنة، كما حدث بالسودان وما تمخض عن ذلك من انفصال جنوبه عنه، والكل يري الآن جنوب السودان وقد أنهكته الحروب الطاحنة والمجاعة القاتلة التي جعلت عددا كبيرا من سكانه يفرون إلى أوغندا. ولهذا السبب بالضبط، راهن المغرب على استعادة عضويته من خلال الشرعية ودعم أغلبية الدول الأعضاء داخل الاتحاد، وذلك لتجاوز تحكم هذه القلة القليلة من الدول التي تشرف عليها بشكل مباشر الجارة الشرقية للمغرب، وربما ستكون هذه المقاربة هي الحل لكسر التحكم والجمود الذي يعرفه الاتحاد الإفريقي، والذي ما زال يكرس تلك الصورة السلبية والنمطية عن القارة الإفريقية للتخلف وعدم القدرة على تجاوز الإرث الاستعماري. ولعل أولى التحديات التي ستواجه في المغرب في هذه المعركة الدبلوماسية هي إيجاد بديل مناسب للرئيسة الحالية للمفوضية الإفريقية التي أعلنت عدم ترشحها لولاية أخرى. مع اقتراب انعقاد موعد القمة المقبلة بأديس بابا، تبدو المواجهة بين المغرب ورئيسة المفوضية الإفريقية مفتوحة على جميع الاحتمالات، ويبدو أن المغرب في موقف قوي في ظل تشبث أغلبية أعضاء الاتحاد بعودته. وإذا كانت مشاركة المغرب في القمة المرتقبة بأديس أبابا في 28 من يناير بصفة عضو كامل العضوية غير محسومة إلى حد الآن، فالنتائج التي ستتمخض عن هذه القمة ستكون حاسمة في تحديد موازين القوة بين المغرب والجزائر، خاصة وأن هذه الأخيرة متخوفة من أن تنعكس الاختراقات الدبلوماسية التي قام بها المغرب مؤخرا بشرق إفريقيا على تسريع استعادة المغرب لمقعده داخل الاتحاد الإفريقي. وبالطبع، فعودة المغرب لن تكون غاية في حد ذاتها في ظل حتمية هذه العودة، بل ستكون فصلا جديدا من الصراع بين الدولتين الشقيقتين؛ الأولى تتطلع إلى الحفاظ على وحدتها الترابية والانخراط في بناء مستقبل واعد قوامه التنمية المستدامة للقارة الإفريقية، والثانية تناور من أجل فرض كيان وهمي وتشجيع الحركات الانفصالية، مما يحول أمام تطور إفريقيا واندماجها في محيطها لإقليمي والدولي. *أستاذ باحث [email protected]