حاول قدر الإمكان أن يصنع لنفسه وضعا اعتباريا داخل مجال كان ومازال يخطو خطواته الأولى بحثا عن الذات، فنجح في ذلك وتفوق؛ هو فنان مبدع هاجسه التفرد والتميز، يكفي أن تنادي اسمه حتى يصفق المغاربة افتخارا واعتزازا، يجدّ ويجتهد قدر الإمكان حتى يصوغ ذاته الفنية بين الحلم والواقع.. لا يتكلم بالضرورة ولا يصرخ حتى يفرض نفسه.. إيماءات جسده وتعابير وجهه تكفي، فكلتاهما تختزلان لغته الغنية بشرف التحدي والمواجهة؛ تحدي الكاميرا ومواجهة الجمهور، تلك اللغة الصادقة المجنونة التي يخاطب بها ذكاء المُشاهد وفطنته.. هو محمد خُيي، ذاك المبدع الشعبي الحيّ الذي انبعث من بين الرؤوس الحليقة، والأحذية البالية، والأنامل الجريحة؛ موهبته تسقي وتروي بذور الإبداع الحقيقي، يخاطب الشعب بلسانه وواقعه، مكياجه ابداعي وليس تجميلي، حسه الفني إنساني واقعي، لا سريالي ولا تخيلي، يعمل بصمت دون تعال ولا غرور. لن أصفه بالممثل الكبير ولا النجم العملاق ولا الفنان العظيم؛ فهي صفات تجاوزها الزمن ولا تتردد اليوم سوى على ألسن أولئك المحنطين المغرمين بالتطبيل والتزمير، ولا يرقص لها فرحا ونشوة سوى مراهقو الفن..محمد خُيي أكبر من هكذا مجاملات، ولا يحتاج لمثل هذه الصفات والألقاب حتى يكرس نفسه ويثبتها، فهو كبير ببساطته وتواضعه وفنه، تكفيه فخرا تلك المسيرة الطويلة من العمل الجاد الدؤوب داخل ميدان صعب غير منصف بالمرة، وتكفيه تلك النظرة الصادقة في أعين جمهوره. محمد خيي فنان ''سيزيفي'' يشتغل أكثر مما يتكلم، يحمل صخرة فنه بإصرار إلى القمة رغبة منه في معانقة الأمل والنجاح، لا يؤمن بالأساطير المحبطة، وأساطير سيزيف نفسه، ولا بالصدف الجميلة.. بخيل في الإفصاح عن حياته الشخصية، تلك التي لا تهتم بمثلها سوى صحافتنا الصفراء، والسوداء أيضا، بعيدا عن أضواء العدسات وفضول أصحابها، مُقلّ في أحاديثه وحواراته، لا يتقن صناعة ''البوز'' كما يفعل غيره من محبي الظهور، ولا يرضخ للشهرة وتأثيرها.. باختصار هو أنموذج للممثل المغربي المكافح المثابر الناجح. كانت انطلاقته الأولى من محترف المرحوم عباس ابراهيم، الذي أهملوا اسمه وتناسوه عن غير قصد أو ربما عن قصد؛ وهو الذي ساهم بشكل كبير في إغناء الساحة المسرحي بأسماء وازنة تتلمذت على يديه في قسم تكوين الممثل الخاص بالمسرح الوطني محمد الخامس، منهم رشيد الوالي، وعبد الكبير الركاكنة، ومنى فتو، وبنعيسى الجيراري...محمد خُيي كان من هؤلاء أيضا، وكانت مسرحية ''الصعود إلى المنحدر الرمادي'' أول خطوة حقيقية يخطوها، ليُفتح له بعد ذلك باب المسرح على مِصْراعيه، ومعه التلفزيون والسينما. راكم محمد خُيي منذ بداياته الأولى إلى اليوم العديد من التجارب في مجال التشخيص حتى برع فيه وتشبع بميكانيزماته، فأصبح بذلك قدوة للأجيال التي تلته..ورغم أدواره المتعددة المختلفة باختلاف الشخصيات التي يتقمصها إلا أنه لم يسقط في فخ التكرار والنمطية، بل يجدد في كل دور يلعبه ويبدع في كل عمل يشارك فيه؛ هذا رغم إصرار بعض المخرجين على تقييده بأدوار معينة، ما يكشف مدى محدودية هؤلاء، ومدى قصر نظرهم وعدم رغبتهم في صنع التميز. محمد خُيي يجتهد قدر الإمكان داخل هذه الدائرة الضيقة المختلة وخارجها أيضا، ما ساعده عمليا على تعزيز مسيرته، فاستحق ما حصل عليه من اهتمام المتتبعين والنقاد. محطات التتويج التي مر بها كانت بمثابة وقفات حقيقية لإعادة التقويم والتقييم، ومناسبات مهمة للاعتراف بالتألق والتفوق، إذ حصل على جائزة أحسن دور رجالي في مهرجان الفيلم الوطني بطنجة سنة 2007، عن دوره في فيلم "سميرة في الضيعة"، للمخرج لطيف لحلو؛ كما حظي بتكريم مهم سنة 2013 في مهرجان مراكش الدولي ضمن فعاليات دورته الثالثة عشرة...هما محطتان بارزتان تلتهما وتوسطتهما محطات أخرى، ساهمت جميعها في تعزيز عمق شخصيته الإنسانية وروحها الفنية، ولم تزده سوى ارتباطا بجمهوره وتشبثا بفنه. ما يثيرني شخصيا ويجعلني أنجذب إلى تشخيص خُيي أكثر هو قدرته على اللعب بأوتار الدهشة لدى المُشاهد، وقراءة أفكاره وترتيبها بما يتناسب وشخصيته في العمل، هو قارئ جيد لنفسية الجمهور، ذاك الجمهور المغربي الذي وُلد وترعرع وسطه؛ قارئ جيد لواقعه وما يرغب في مشاهدته على الشاشة، لا تهمه المدارس السينمائية بنظرياتها وتطبيقاتها، فهو لا يعبأ بكل هذه الفوضى المقيدة المغلولة بالقواعد والقوانين، هو المتمرد العنيد التواق لحرية التشخيص دون قيد ولا شرط، يطلق العنان لموهبته ولا يستسلم سوى للشخصية التي يلبسها وتلبسه، يعرف كيف يجدد طاقته ويتلاعب بها، ينبش جزئياتها وأسرارها بعيدا عن النجومية الفارغة تلك التي يتوهمها البعض من أبناء حرفته فيسقطون في فخ الأنانية ثم الغرور والكبرياء، وفي الأخير يكون الغياب المطلق نتيجة حتمية لأوهامهم تلك. وفي الأخير لا بد لي أن أختم بهمسة عابرة: الفن لا يُتعِب أبدا، وإن قدر الله وأتعب فلا بد للفنان من مواصلة المسير مهما كان الثمن.. هي عبارة جاءت على لسان محمد خُيي نفسه في دور من أدوراه المسرحية، أعيد إحياءها هنا بتصرف، كدليل رمزي على تضحية الفنان الحقيقي، ذاك الذي يبقى شعلة منيرة حتى آخر رمق في حياته. *كاتب وناقد مغربي مقيم بهولندا