خرجت صناديق الاقتراع الأمريكية بمفاجئة من العيار الثقيل بنجاح الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. هذا النجاح بفارق كبير على منافسته قليلة الحظ هيلاري كلينتون جاء كالصاعقة المفاجئة للعالم ولملايين الأمريكيين، حيث ما كان يعتبر كابوسا انتخابيا وسياسيا مرعبا تحول إلى أوراق زرقاء ملئت صناديق الاقتراع وانتصارا كاسحا للمرشح المرعب الذي لم يكن أحد ينتظره أحد ! وبانتخاب هذا الرئيس الأمريكي الجديد، تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية فعلا والعالم معها، قد دخلا مرحلة جديدة. مرحلة من المنتظر أن تتحرك فيها العديد من الخيوط والسياسات التي سيكون لها تأثير كبير وعميق على العديد من الدول والأنظمة، خاصة العربية منها. إلا أن خطاب الرئيس الجديد مباشرة بعد فوزه أثبت مرة أخرى حقيقة واحدة، وهي قوة الديمقراطية الأمريكية على خلق شروط الاختلاف والتنافس الشديدين داخلها، ولكن دائما في إطار الوحدة المقدسة لأمريكا. فالرؤساء يختلفون حول الوسيلة، ولكن الهدف واحد : خدمة أمريكا ومصالحها الإستراتيجية وهيمنتها وريادتها للعالم في شتى المجالات. فبالرغم من مستوى العنف الشديد الذي وصلت إليه حملات المتنافسين على أقوى مقعد تنفيذي في العالم، إلا أنه مباشرة بعد صدور نتائج الصناديق قبل بها الجميع ولو أنها كانت صادمة حتى للتكتل الجمهوري، الذي كان أعلن فيه العديد من الزعماء، بما فيهم رئيس الكنغريس بول ريان، عدم مساندته للمرشح ترامب، هذا الذي أسس كل حملته على إعلان الحرب ضد المنظومة السياسية المتحكمة بواشنطن (Establishment). وعلى الرغم من كل المناورات المؤسساتية (Manoeuvres d'Appreil)التي قام بها الحزب الجمهوري للحيلولة دون نجاح ترامب في قيادة رئاسيات الحزب الجمهوري، وبالرغم من نزول الرئيس الحالي باراك أوباما بكل ثقله في الحملة الانتخابية ومهاجمته للمنافس ترامب، إلا أن الأمريكيين كان لهم رأي آخر وصوتوا على ترامب بالملايين، لأن الشعب الأمريكي قادر على صناعة رأيه، متشبت بحريته في الاختيار، ويحب المخاطرة والمغامرة كعقيدة صنعت الحلم الأمريكي. وبالفعل نجح ترامب وشهد الجميع كيف تتم عملية تدوال السلطة بكل سلاسة وأناقة واستقرار في قلب أكبر قوة في العالم. بل ما ظهرت النتائج حتى التأم الجميع حول الوطن، وعرض هيلاري وساندرس، الغريمين السياسيين الديمقراطيين للرئيس، نفسيهما للعمل مع الرئيس الجديد، لان أمريكا هي الأهم ! هذه هي دروس الانتخابات الأمريكية، شعب قادر على التجدد، يؤمن بأفراده، ولكن متشبت بوحدته وبالمصالح العليا الإستراتيجية لأمريكا. ما دون ذلك، فهو تمرين مجتمعي ديمقراطي، يدفع الجميع من خلال إعمال مبادئ الحريّة والتنافسية وتكافئ الفرص إلى اختيار الأقوى، إلى صناعة الأحسن، إلى بناء الأفضل.. لكن بالطبع هناك شروط وضمانات يجب أن تتوفر حتى لا يكون التغيير مغامرة إلى المجهول. وتبقى الدعامة الأساسية لإحداث تغييرات عميقة تقفز بالجميع إلى الأمام درجات كبيرة هي تماسك البنيان الجماعي والإيمان بالوحدة الداخلية للأمة. أما الإيمان بالذات الشخصية، وجعل الأحزاب والهيئات بوزن الأمم، فهو هو الباب إلى الجحيم. فماذا يزن ترامب، أو أوباما أو أو كلينتون أو الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى جانب أمريكا ؟ لاشيء في القيمة الاعتبارية لدى الشعب الأمريكي. هؤلاء ليسوا إلا جزئيات في المنظومة الكلية التي يتشبث بها الجميع، وهي أمريكا بكل مؤسساتها وتركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والهوياتية...، التي تجد فيها الغالبية القصوى مكانتها وفرصتها في صناعة المصير الذي تريده. بهذه المنظومة نصنع الحلم المتجدد، ونستطيع دفع عجلة الأمة والدولة إلى أقصى سرعة دون الخوف من أي عطب أو انفجار داخلي. للأسف ونحن نحاول أن نتمثل هذا الدروس في واقعنا العربي نصاب بالرعب من هول الفارق. فمصيرنا كان طيلة عقود القبول بأنظمة عسكرية أولويتها السيطرة والدوام، وأدواتها تعذيب المواطن ومحاربة كل محاولة، ولو في الأحلام، لصناعة مستقبل مختلف. فلما أن خرجت الشعوب العربية تطالب بسلمية بحقها في التغيير فتحت عليها الأنظمة جهنم تقتيلا وتعذيبا وتنكيلا. هذه قوة الفارق اليوم، بين أمريكا التي أصبح فيها رئيسا شخص غريب كلية عن النظام القائم، أسس برنامجه على محاربة المنظومة القائمة وتغييرها، وسوريا التي تحولت إلى خراب لأن السوريين قالوا نريد نظاما آخر، ومصر التي رجعت إلى ما قبل نظام عبد الناصر العسكري لأنها قالت لا نريد محسن مبارك، وليبيا التي تحولت إلى أشلاء لأنها قالت لا نريد القدافي، واليمن الذي تمزق لأنه لم يعد يقبل بصالح الخالد... لن نتحدث عن جل البلدان العربية الأخرى التي لا يمنع شعوبها من الإجهار بمطالبها في التغيير إلا الخوف من هذا الجحيم الذي تعيشه اليوم كل الدول التي تجرأت على التغيير، وسارت تدفع مقابله يوميا بالمئات والآلاف من الأرواح والضحايا والأموات. وبالنظر إلى النموذج المغربي والتونسي يأخذنا بصيص من الأمل في التغيير، وبوجود نواة عاقلة قادرة على إحداث الطفرة النوعية باستقرار وسلمية. ولكن بالتأكيد لا تزال الطريق طويلة وخطرة ونحن عشنا ونعيش في البلدين محاولات مستميتة للانقلاب والتحايل على إرادة الشعوب وإعطاب عجلة التغيير. أفما أنى للعرب أن يؤمنوا بأوطانهم وشعوبهم، قبل التشبث بمناصبهم ومصالحهم. هاهي أكبر قوة في العالم تعطيهم الدرس من جديد في ذلك !