بعد حوالي أسبوعين على خطاب الملك في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان الذي اتهم الإدارة العمومية بالتقصير في خدمة المواطن، اتهام أعاد إلى الأذهان سؤال: أين الثروة؟ جاء حادث "طحن" المواطن محسن فكري في شاحنة الأزبال لتختزل عبارة "طحنْ مّو" الطبيعة العدائية لنظرة أجهزة الدولة إلى أبناء الشعب وتضع النهج التدبيري للدولة في قفص الاتهام وتصيب شرعيتها ومصداقيتها في مقتل. حادث "طحن" بائع السمك وما شابَهُ من خروقات في تنزيل مساطر مصادرة المحجوزات طرح سؤال تأهيل رجال الإدارة وعناصر الأجهزة الأمنية مواكبة لوعي الشعب واستجابة لحاجياته؛ تأهيل أو "رَسَكْلَجَةٌ" بتعبير التونسيين(ترجمة حرفية للفظ الفرنسي"recyclage") يستمد شرعيته من توالي سقطات الإدارة العمومية وإفلاس تدبيرها لشؤون العباد والبلاد، ذلك أنه من الاستخفاف بذكاء الشعب حصر التلاعب بحقوق الناس بموظفين ومسؤولين في دوائر ضيقة واعتبارها حالات معزولة، وإذا كان بعض رجال السلطة وأعوانها "يجتهدون" في خرق حقوق المواطن وهضم كرامته، فهم في الغالب الأعم لا يخرجون عن النص، بل إن "الحصانة" التي يتمتعون بها دليل على أن ما يسجل ويطفو إلى السطح من خروقات وفضائح يعبر عن توجه رسمي لنظام تسلطي تحكمي، وإلا لماذا كل هذا الإصرار على إفلات المسؤولين من المتابعة والمحاسبة على ما يقترفون في حق المواطنين؟ حادث "طحن" بائع السمك بالنظر إلى بشاعته وسياقه الزماني والمكاني وحجم التفاعل الشعبي الذي تجاوز حدود التضامن في مواقع التواصل الاجتماعي إلى الفعل الاحتجاجي الميداني وعلى نطاق واسع ذكر بحراك 20 فبراير، أربك الدولة وفرض عليها المسارعة إلى إجراءات غير معهودة، فمن عامل إقليم يعزي المحتجين الغاضبين ويتودد لهم ويقترح عليهم تشكيل لجنة لمواكبة التحقيق في حيثيات النازلة، إلى القائم على شأن أم الوزارات "يتواضع" ويطير إلى الحسيمة مدعوما بمنتدبه في الوزارة ليحلا ببيت أسرة الضحية معزيين ومطمئنين الأسرة أن تعليمات ملكية قد صدرت بفتح تحقيق دقيق سيصل إلى أبعد مدى لكشف المتورطين في الحادث مهما كان مستوى مسؤولياتهم، إلى إعلام رسمي خرج عن صمته وتجاهله لمثل هذه القضايا وبدا متفاعلا مع نبض الشارع وغدا الحادث مادة رئيسية في نشراته تحليلا ومواكبة. وحيث إن لكل حادث رسائل، فإن "طحن" محسن فكري سيفرض على الدولة أن تعيد النظر في أساليب تعاملها مع القضايا الاجتماعية، وفي غياب بدائل واقعية لما يعتمل من اختلالات في مجال الخدمات الاجتماعية من شغل وصحة وتعليم ونقل وكهرباء وماء شروب، وأمام بوار المبادرات التنموية الرسمية (مبادرة التنمية البشرية)، فإن مجال مناورة الدولة سيضيق وستجد نفسها أمام موجة جديدة من الاحتجاجات الفئوية التي يصعب احتواؤها وتطويقها. إن الحادث وما أثاره من تفاعل شعبي ترجمته الفعاليات الاحتجاجية الواسعة والسريعة يعيد للفعل الشعبي الميداني المصداقية ويجدد شرعيته ويبعث رسالة إلى من يُهمهم أمر البلد والشعب لاتخاذ حزمة جيل جديد من الإصلاحات أعلى سقفا مما تضمنه خطاب 9 مارس 2011؛ إصلاحات تجيب عن سؤال الثروة إنتاجا وتوزيعا عادلا، وعن سؤال الحقوق والحريات العامة مشاركة في القرار صناعة وتنزيلا، وعن سؤال الحكامة الراشدة فصلا للسلط وربطا للمسؤولية بالمحاسبة، وعن سؤال تخليق الحياة السياسية توفيرا لبيئة تنافسية حقيقية تحتكم إلى اختيار الشعب وتحترم إرادته. إن منطق المقارنات لا يستقيم في مثل نازلة "طحن" بائع السمك، وليس في كل مرة تسلم الجَرّة، كما يقول المثل، وواهم من يعتقد أن الفاجعة ستطوى دون أن تترك خدوشا في وجدان الشعب، وأنه بتقديم مجموعة من أعوان السلطة وفي مستويات مختلفة قرابين لاحتواء الموقف سيعتبر الأمر منتهيا، بل إن الأمر أكبر من ذلك، وما لم يُبادَرْ لمعالجة جذرية لأسباب الحيف و"الحكرة" فليوطِّن المخزن نفسه وليعبئ أجهزته والأمنية تحديدا للمزيد من الأحداث الشبيهة المهددة للاستقرار والأمن الاجتماعيين، وستكون على نفسها الدولة والمخزن جنتْ بَراقِيشُ.