بعد فوز حزب العدالة و التنمية بصدارة الانتخابات التشريعية، الذي كان منتظَراً عند البعض و مفاجئاً عند البعض الآخر، من المتوقع ألّا تتغير الخريطة السياسية التشريعية و التنفيدية، إذا ما وقع الاختيار على نفس مكونات الحكومة الأولى أو الحكومة الثانية. هذا ما لم تتنطّع بعض الأحزاب المرشحة للتحالف الحكومي أويتم تحريضها ضد أي توافق مُرضي و إيجابي. كما لا يُستبعد أن يلجأ الحزب الفائز إلى تشكيل تحالف مع مكونات الكثلة التاريخية، مُساهما في إحيائها من حوله، و مستغنيا عن حَلِيفَيْه الإثنين في الحكومة الأخيرة، الحركة و الأحرار. فإذا قُدّر إذن للمشهد السياسي في الولاية الجديدة ألا يتغيّر، فلعلّ المصلحة الوطنية تقتضي من السلوك السياسي أن يتغيّر. فإنه لم يَفُت أحدا كيف كان المُناخ السياسي خلال الحملة و خلال الأيام السابقة لها، تطبعه المناوشات الحربية أكثر من النقاشات الحزبية. كما لم يفت أحدا الجو السياسي المشحون خلال الولاية الحكومية السابقة بأكملها ، و الذي أثر سلبا على الأداء الحكومي و التشريعي، ممثَلا في سلوكات خسيسة من طرف جانب من الطبقة السياسية، كان عنوانها البارز: التّكالُب على العدالة و التنمية الذي يقود الحكومة و تسديد الضربات السياسية له، بالقول و الموقف و التأليب و المقاطعة و العرقلة و التشويش، و كذا زرع الفتنة و التخذيل بين بعض الأحزاب المكونة له. و إذا ما نالت الهيئات الحزبية المكونة للأغلبية معه حصتها من العدوان، فما ذاك إلا لتضامنها الحكومي معه، لا لهويتها أو لسيرتها الذاتية. و من المحيِّر أن اتهامات هذه الأطراف كانت تنصب على بعض القضايا التي لا يد للحكومة فيها مثل الأزمة الاقتصادية العالمية التي بلغ حرُّها إلى سواحل المملكة مع سنة 2012، مما سبب انخفاض الصادرات و انخفاض الإنتاج و تباطأ الدورة الاقتصادية مع ما تلاها من مشاكل البطالة، بينما كانت هذه الجهات تغض الطرف عن إنجازات شجاعة مثل المقاصة و قانون الإضراب و صندوق التقاعد و التغطية الصحية و الخدمات الاجتماعية و تقليص عجز الميزانية و غيرها. هذا و لا أحد ينكر وجود إخفاقات للحكومة السابقة في مجال التعليم و وضعية العالم القروي و أزمة العقار و غيرها. و اعتقادي أنه لو كان يسود جُّو الثقة و الاحترام و صون الكرامة للأشخاص و الهيئات، لكان ذلك من شأنه أن يسمح للحكومة، بكافة مكوناتها، بالاعتراف الطبيعي بِمَواطن الفشل، دون خشية أن يُستغل ذلك في المزيد من تقديحها لدى الرأي العام الوطني و الدولي و الإجهاز على سُمعتها. إن كانت الحكومة السابقة بمكوناتها ، و على رأسها الحزب الفائز مجددا، لم تقدِّم النموذج الأمثل للتوفيق و التفوّق في كل شيء، و لم تُظهِر على كفاءات و مهارات خارقة، شأنها كشأن كثير من الحكومات في المغرب و في غيره، فإن الذخيرة الحيَّة التي وُوجِهت بها دفعتها، في تقديري، للانكماش على مواقف دفاعية بدل الانبثاق و التطور و النقد الذاتي، و الذي لا مجال له في علم النفس إلا مع وجود حد أدنى من الاعتبار و تقدير الجهود، إن لم يكن تقدير النتائج. و لعل هذه الزعزعة الاعتبارية هي المقصود بالذات، في منهج السياسوية المعاصرة. هذه الحملة السياسية الشرسة من طرف ما يسمى المعارضة وَجدت امتدادها المتضامن في مجال الإعلام و المجتمع المدني وهيئات الأعمال و بعض رجال الفكر، و لَربما بعض أطراف العلاقات الخارجية للمغرب. و إنني كملاحظ للشأن السياسي لبلدنا و كفاعل فيه، شجبت غير ما مرّة " الحَرْكة" التي قادتها بعض الصحف الورقية و الإلكترونية ضد العمل الحكومي، تزدريه و تطعن في نجاعته و تُضَخِّم إخفاقاته، و تقْدَح في رجالاته و تتتبع هفواتهم، و ذلك إلى حد الهَوَس. و قد رافق الهجومات السمفونية الممنهجة من طرف هذه المنابر، ضربات موقوتة من هيئات مختلفة لم تُعرف عنها نفس الشراسة مع الحكومات السابقة، و نخص منها بالذكر المجلس الوطني لحقوق الإنسان و بعض الجمعيات الحقوقية و بعض الحركات النسائية، و بعض النقابات و مؤسسات رسمية مثل المندوبية السامية للتخطيط و بنك المغرب و الإتحاد العام لمقاولات المغرب ، فضلا عن الهيئات المهنية المتكتله للدفاع عن مصالحها الفِئوية. و إنني إذ أؤكد، كفاعل سياسي يؤمن بالديمقراطية الكاملة، لا المُجزّءة، على مشروعية الدفاع عن المصالح و عن المشروعية الدستورية للمعارضة، بل عن ضروريَّتها الصحية للتوازن السياسي، أجدد استنكاري للممارسات االسياسوية الخسيسة، سواء الصادرة عن المعارضة أو عن هيئات اقتصادية و رسمية و حقوقية، أو عن دوائر نفود خارج الحكومة، يكون الغرض البيِّن منها زعزعة الحكومة و الأغلبية البرلمانية أو إرباك تضامنها أو إهانة نسائها و رجالها. لأن المعارضة التي بَوَّأها الدستور الجديد مكانة لا غنى عنها، ليس المراد منها هدم ما يُبنى من إنجازات و تَسفيهُها، إلى حدِّ العرقلة و تفويت فرص غالية على البلد في حاضره و مستقبله، و ذلك من خلال تبخيس عمل الحكومة، استعدادا و استعجالا للحلول مكانها. فقد رأينا الخرجات الأولى لبعض الأحزاب بعد الإعلان عن النتائج ، كيف تستمر في تشويه صورة الحزب الذي عيّن الملك أمينه العام لتشكيل الحكومة، مستدعية في ذلك القاموس البالي للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي من تطرف و إخونجية وتضليل الناخبين و خيانة السيادة الوطنية. بل إن ما يُطلب من المعارضة أن تنتقد العمل الحكومي نقدا بَنَّاء، مع ما يلزم من النزاهة، تتوخى من ذلك تحسين المردودية للجهاز التنفيدي لفائدة الوطن، مع السكوت إن شاءت عن الإنجازات السديدة، إذا كانت لا ترغب في تثمينها، و الاقتصار على إظهار مواطن العجز أوالإخفاق مع طريقة لمعالجتهما. و إذا ما انتقلنا بتحليل هذه الظاهرة المَرَضِيّة من الحقل السياسي إلى الحقل المدني، يزيد استغرابنا كمواطنين لملاحظة كيف تسري هذه الانتقادات اللادعة إلى الجسم الاجتماعي المغربي الذي يتم استِعْداؤه بطريقة غير مباشرة على الحزب الذي يقود الحكومة و على رجاله، من خلال الترويج مثلا لشبهة ارتباطه بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، أو نَسْب "أخْوَنة" و تزمُّت المجتمع إليه، أو الإلصاق به مشروعَ الاستحواذ على السلطة لوحده، أو نَعتِه بالإرادة الخفية لأفغنة المشهد الوطني، أو غير ذلك من قاموس الخيال السوسيو- سياسي. من نافلة القول أن بلدنا محصن بدستوره و ملكيته و مؤسساته كلها، ضد أي خطر من هذه الأخطار الافتراضية و التي تعبر على سخافة دُعاتها و استِبْلادهم للشعب المغربي. لقد كانت لي تجربة، من خلال تحالفنا كحزب القوات المواطنة الذي أنا من المؤسسين له، مع حزب العدالة و التنمية سنة 2005، في الاستحقاقات الانتخابية. و من خلال إبصارنا و تبصُّرنا لسلوكات رجاله و نسائه و مؤسساته، نعتبر هذا الخطاب العَدائي لا يليق في حق هذا الحزب، بل هو تركيب وهمي و مفتعل من الاتهامات التي لم يثبت عليها دليل و لا يقول بها سياسي و لا مواطن نزيه. إذ أن الحزب المذكور، بناء على المرجعية الإسلامية التي يتبناها، و التي لا تتنكر لها أحزاب مغربية أخرى عديدة في خطابها و أدبياتها، لم يَصْدُر عن ممارسته السياسية الحزبية و لا الحكومية و لا البرلمانية فِعلٌ و لا قولٌ يخالف الدستور المغربي أو يمسُّ بالثوابت و الرموز الوطنية، و لا حتى يُميّزه دينيا و عقديا عن غيره من الأحزاب، و ذلك منذ انتدابه على رأس الحكومة، بل منذ ميلاده السياسي. بل إن الحقيقة التي قد لا تروق للمعارضة الحالية هي أن هذا الحزب يتمتع باستقلالية قراره مع وفائه المعلن للمؤسسة الملكية، و بنظافة يده في الانتخابات و في الممارسة الحكومية، و فصلِه بين تدبير الشأن العام و الانتفاع الشخصي، و انخراطه في خدمة الوطن، كما هو الشأن بالنسبة لفعاليات سياسية أخرى في بلدنا. ماذا يريد الشعب بعد هذا، كما يقول الفرنسيون. هذا المقال ليس للدفاع عن حزب العدالة و التنمية، فهو نفسه من يتكفل بذلك، لكن لِمَ نستمر، كفاعلين سياسيين و مَدنيين، في نسج الأوهام و بيعها، مع شَيْطَنة حزب سياسي يحظى بثقة فئة من الشعب تُبَوِّئه الصدارة في كل استحقاق؟ و ماذا نجني من وراء ذلك، إلا البلبلة و كهربة الحقل السياسي و تفويت فرص التنمية و التطور على بلدنا؟ فمِمَّا وضح لنا أن سياسة تشويه صورة هذا الحزب و تبخيس إنجازات الفريق الحكومي الذي يقوده لم تُفلِح في هزمه كخصم سياسي، بل ساهمت في تقويته و الزيادة في شعبيته، و لم تؤد إلا إلى إلى إضعاف حلفائه في الحكومة السابقة. و بعد ذلك كله، يُحتجُّ بأن الحزب ما انتصر إلا بممارسة خطاب المظلومية المفتعل. أعتقد أن على كافة الفاعلين السياسيين، و على رأسهم "الحزب الصاعد" بقدرة قدير و حلفاؤه، و على كافة الفاعلين المدنيين و رجالات الدولة على كل المستويات، أن يهيئوا الأجواء لمصالحة سياسية بين الأحزاب، و دفن ماضي المعارك و الحروب و العداوة و تسميم الحياة السياسية، ملتزمين حدود التنافس، و لْنَقُل حتى العِراك السياسي، لكن الشريف و المشروع. و هذا لا يمنعنا من انتقاد بعضنا للبعض الآخر وعرض مشروع سياسي و مجتمعي و برامج مناوئة له، علما بأنه من حق البعض ألا يحب حزب العدالة و التنمية و لا يتفق مع مناضليه. و لكن لِنظَلّ متمسكين بالديمقراطية كاملةً، و محتكمين إلى الشعب و إرادته، لا إرادة الهيئات المستترة، الداخلية منها و الخارجية التي تحرك الناخبين، و جاعلين نصب أعيننا المصلحة الوطنية، كما تُذَكِّر بذلك خطابات صاحب الجلالة نصره الله باستمرار. فهذا نداء لكافة الأحزاب ، سواء الممثلة منها في البرلمان، (و لم تصبح إلا 12، ستة منها فقط يُمكِنها تشكيل فريق برلماني)، و للأحزاب غير الممثلة، أن تصْطفّ إما مع الأغلبية و إما مع المعارضة، أو في المساندة الخارجية، و أن يؤدّي كلٌّ منها دوره الدستوري بكل نزاهة و بكل وفاء للناخبين الذين وضعوا فيه ثقتهم. و ليس ندائي من قبيل الحلم الطوباوي، بل هناك التحليل الواقعي للمشهد، حيث أن المجتمع السياسي، إن لم يحول خطته و ممارسته وِجْهَةَ النزاهة و التنافس الشريف بدل تصفيات الحسابات الضيقة، التي لا تؤدي إلا إلى استقواء من يتخذون الممارسة السياسية مطية لمصالح شخصية أو فئوية، فإن هذا مثل السلوك لا يخفى على الناخبين. و قد برهن هؤلاء عن وَعْيهم من خلال معاقبة أحزاب المعارضة و تزكية الحزب القائد للحكومة، إذا ما استثنينا الصعود الصاروخي لحزب الأصالة و المعاصرة و الذي استخدم وقودا من نوع خاص. فلن تكون هذه الممارسات إذا ما استمرت في الولاية الجديدة إلا ضدّاً على مستقبل المغرب و تكريساً لوضعية الاحتقان الاجتماعي و الاقتصادي، مما يعرض بلدنا لدوّامة الاضطراب و الإحباط و يأس المواطنين من التغيير ولخطر الانسياق نحو المجهول. *عضو مؤسس لحزب القوات المواطنة