من نعم الله على أمتنا أنه لو لم تكن المملكة المغربية ملكية دستورية متطورة، لدخل البلد اليوم بسبب نتائج اقتراع 7 أكتوبر 2016 أزمة حكومية على غرار بعض الجمهوريات كإيطاليا على سبيل المثال، لأن نظام الملكية الدستورية الديمقراطية البرلمانية والاجتماعية، يكاد يكون هو النظام الوحيد على المستوى الدولي، القادر على الحيلولة دون حدوث أي شكل من الأزمات الحكومية،وهي الحقيقة التي نستطيع تحديدها على مستويين: - المستوى الأول: قبل شهرين من انتخابات السابع أكتوبر 2016، كان المواطن المغربي العادي عامة والمثقف على الخصوص، قد وقف حائرا من قوة الخطاب السياسي للدولة، وربط ذلك بأقوال وأفعال بعض السياسيين، وردود أفعال بعضهم الأخر، حتى اعتقدت الطبقة السياسية وتيقنت مع بقية الشعب، أن حزب المصباح أصبح مستهدفا، وأنه سوف يسقط في استحقاقات 07 أكتوبر 2016، وبالتالي لن يترأس أمينه العام الحكومة مرة ثانية في ظل دستور فاتح يوليوز 2011، لأن السبب كما راج أو رُوِّج له في الأوساط الشعبية، هو أن " الشَّريف " كان بالفعل قد غضب عليه بسبب فلتات لسانه وتهوره السياسي وخرجاته التي يميزها الكثير من سوء التقدير، إضافة إلى أن بعض القرارات التي اتخذتها حكومته مؤخرا، قيل أنها قرارات غير شعبية لكونها أثرت ومست بشكل واضح، شرائح اجتماعية كبيرة في قوتها اليومي وقدرتها الشرائية. في خضم هذا الإحساس والشعور العام، كان مؤيدو ومناضلي حزب العدالة والتنمية خلال الفترة ما بعد الخطاب الملكي في شهر يوليوز إلى 07 أكتوبر 2016، في وضعية تشبه إلى حد ما وضعية المغتصب نفسيا. وقد تعمقت هذه الوضعيةبشكل محرجنتيجة الهجوم الذي شنه زعيم حزب الجرار على زعيمهم في بعض وسائل الاعلام من جهة، وبسبب المسيرة الحاشدة التي تم تنظيمها بطريقة غريبة ومفاجئة بالبيضاء احتجاجا على السياسة الحكومية وطعنا في مصداقية رئيسها من جهة ثانية، خاصة بعدما لاحظ مناضلو حزب المصباح أن زعيمهم فضل الصمت إزاء بعض الحقائق التي كشفت عنها بعض وسائل الاعلام المرئية والمقروءة، الأمر الذي عمق أزمتهم النفسية أكثر، فبدأ اليأس والشك يتسرب إلىقلوب الكثيرين منهم تجاه مصداقية الحزب والساهرين على تدبيره. في تلك الظروف، كانت الدولة تراقب الوضع من أعلى كالنسر الذهبي الجارح، وكانت ترنو بعيونها الذكية إلى كل الملابسات والظروف.في الوقت نفسه، كانت فئات كبيرة من المجتمع، تعتقد أن الدولة " كَبُر عليها الطرح "، وأنها فقدت قدرتها على إدراك الحقيقة الواقعية للرأي العام، لكن نتائج انتخابات 07 أكتوبر 2016، بينت بالواضح أن الدولة لم تكن نائمة، بل كانت حاضرة بقوة، وكانت تدبر بدهاء مسؤول، مختلف القضايا ذات الحساسية الانتخابية، وكانت غايتها الأولى والأخيرة من كل ذلك، هي تحقيق التوازنات حفاظا على المصلحة العليا للأمة. - المستوى الثاني: وفيه نستطيع التأكيد أن الأستاذ عبد الإله بن كيران يعتبر بحق، رجل دولة بامتياز، وأن الأستاذ إلياس العماري يعتبر كذلك رجل سياسة بامتياز. الأول بات يؤمن بأنه من واجبه في هذه الفترة منتاريخ المغرب المعاصر، أن يتقن دوره بما يتماشى مع طموحات المغرب الذيهدفه أن تصبح دولة صاعدة، ولذلك بادر ودخل بالسفينة بحرا عجز رؤساء الحكومات من قبله حتى عن الوقوف بشواطئه، لكن الإبحار عميقا جعله يشعر بأن " السفينة في خطر "، وأن قيادتها إلى بر الأمان يتطلب الدعم. والثاني قدم الدعم اللازم عبر الإسهام في تحويل دور " غريمه " إلى حقيقة اجتماعية، فبدأ يحرك الأمواج لا بهدف إغراق السفينة، وإنما لجعلها ترسو باطمئنان بين تحركات الأمواج العاصفة، فتحرك المحافظون بقوة لحماية الدين من " العلمانيين ". كان لابد من تقييم دور كل " ممثل "، فاتضح بعد انتهاء زمن لعب الأدوار على مسرح الأحداث، أي بعد إعلان نتائج صناديق الاقتراع ليوم 07 أكتوبر 2016، أن المسافة الفاصلة بين " العدائين " عند خط الوصول، سوف تطرح أزمة حقيقية بين حزب المصباح و حزب الجرار، لأن كلاهما يعتقد أنه قام بما يجب عليه القيام به قبل وأثناء المباراة، وبالتالي، فكلاهما له الحق في المطالبة برئاسة الحكومة. كيف ذلك ؟ ولحل هذه القضية المركبة بامتياز، هناك ثلاثة حلول: - الحل الأول: إما استعمال القياس بإسقاط الطريقة المعمول بها دوليا لتقويم نتائج العدائين في مباريات الجري السريع، والتي يسمح فيها للتواجد على منصة التتويج للثلاثة الأولينفقط، وفي هذه الحالة، سيقود الحكومة المقبلة ائتلاف يتكون من ثلاثة أحزاب هي حزب العدالة والتنمية (125 مقعدا)، وحزب الأصالة والمعاصرة (102 مقاعد)، ثم حزب الاستقلال (46 مقعدا). وهو ائتلاف يبدو مستحيلا طبقا لواقع الأمور، نظرا لطبيعة الثقة المفقودة ظاهريا بين أمناء هذه الأحزاب، ولكن إرادة الدولة التي يهمها مصلحة الوطن والمواطنين قد تجعله ممكنا. - الحل الثاني: أن يترأس الحكومة حزب العدالة والتنمية طبقا لظاهر نص الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور: " يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلسالنواب، وعلى أساس نتائجها ".أي أن التعيين يكون فقط لرئيس الحكومة وليس للحكومة، وهنا يكمن الإشكال الدستوري الذي يتمثل بالأساس، في أنه لا يمكن لحزب العدالة والتنمية رغم النتائج التي حصل عليها في انتخابات 7 أكتوبر 2016، والتي على أساسها سيعين الملك أمينه العام رئيسا للحكومة، أن يُفعل مضمون الفقرة الثانية من الفصل 47 التي تنص على أن يعين الملك أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها.بمعنى أن تعيين الملك لأعضاء الحكومة، يرتبط باقتراح أعضائها من قبل رئيس الحكومة الجديد، لكن اقتراح الأستاذ عبد الإله بن كيران، يرتبط وجوبا بقبول الأحزاب المعنية للعضوية في الحكومة. لكن من هي الأحزاب المعنية ؟ بما أن المشرع الدستوري ربط رئاسة الحكومة بشرطين: أولا تصدر انتخابات مجلس النواب، ثانيا بالنتائج المحصل عليها، فإنه من حق حزب الأصالة والمعاصرة المشاركة في الحكومة طبقا للفصل 47 من الدستور. وبناء على هذا الحق، فإنه لا يمكن لحزب العدالة والتنمية ضمن الصلاحيات التي يخولها الدستور لأمينه العام بخصوص اقتراح أعضاء الحكومة المقبلة، أن يتجاوز حزب الأصالة والمعاصرة. - الحل الثالث: إذا خضع الأمين العام لحزب المصباح لضغط أعضاء الأمانة العامة بفعل تأثير مناضلي الحزب، فإنه سيقرر عدم التحالف مع حزب الجرار،وفي هذه الحالة فإن الوضع لا يخرج عن أمرين: - أولا : إما أن يحافظ حزب المصباح على نفس التشكيلة الحكومية السابقة [ العدالة والتنمية، والأحرار، والحركة الشعبية، ثم التقدم والاشتراكي ] لكون هذه الأحزاب حصلت على 201 مقعد في انتخابات 7 أكتوبر 2016، وهي أغلبية مريحةتمكن الأستاذ عبد الإله بن كيران باعتباره رئيسا للحكومة، تطبيق نص الفقرة الأولى من الفصل 103 التي تنص على أنه : " يمكن لرئيس الحكومة أن يربط، لدى مجلس النواب، مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتهابتصويت يمنح الثقة بشأن تصريح يدلي به في موضوع السياسة العامة، أو بشأن نص يطلبالموافقة عليه". مما يعني أنه بإمكان حزب العدالة والتنمية مواصلة تفعيل برنامج حكومته السابق، الأمر الذي سوف يضع حزبه أمام امتحان شعبي صعب، لأن الأمور الصعبة التي تعمد إرجاء النظر فيها خلال الولاية الأولى، ستعمل المعارضة على تحريكها منذ بدايةالولاية الثانية لحكومة حزب المصباح. - ثانيا: أن يتشبث حزب الجرار بحقه في المشاركة في الحكومة المقبلة بناء على مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور، لأن تشكيل الحكومة يتم على أساس النتائج المحصل عليها. وبالتالي،فإن حزب الأصالة والمعاصرة الذي حصل فعلا على المرتبة الثانية في انتخابات 7 أكتوبر 2016، لا يمكن ولا ينبغي أن يُقصى من تشكيلة الحكومة المقبلةبدعوى أنهيعتبر بالنسبة لحزب العدالة والتنمية خطا أحمر، وبالتالي، يجب إقصاؤه وتشكيل الحكومة المقبلة إلى جانب حزب المصباح، من أحزاب حصلت على نتائج أقل من النتيجة التي حصل عليها حزب الأصالة والمعاصرة.ونستنتج أن تشبث حزب الجرار بحقه الدستوري في تشكيل الحكومة طبقالنتائج اقتراع 7 أكتوبر 2016، سوف يؤدي إلى واحد من أمرين: إما أن يشارك في الحكومة المقبلة، وهذا معناه أن الممارسة الدستورية في المغرب تتطور، أو أن يُقصى مما يفيد أن الدولة تتساهل مع التحكم في التأويل الدستوري،وهو ما ينذر بأزمة حكومية قد يتدخل الملك أمير المؤمنين للحسم في ملابساتهادستوريا.