كثير من المتزمتين و المستغلين للدين يجعلون ما في الروايات الكثيرة التي ألفها أو تناقلها مرتزقة الخلفاء والسلاطين من رجال الدين هو المرجع الوحيد في حياتنا الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ، وان ناقض الكثير منه القرآن أو ناقضت الروايات بعضها البعض أو كان ما هو منقول ومتواتر منافيا لأحكام العقل والمنطق والفطرة السليمة ، وان بروز هذه الظاهرة المؤسفة والمسيئة لروح وجوهر الإسلام كان دافعه الأساسي التاريخي هو السياسة ، ولذلك فان تلك الوضعية قد خدمت الحكام الطغاة ودعمت حكمهم الظالم وقدمت لهم الأسانيد الدينية والمبررات الشرعية للتمادي في الظلم و القمع واضطهاد واستغلال عباد الله وذلك منذ بدء حكم سلالة بني أمية واستفرادهم بالسلطة، وهذه الوضعية ممتدة إلى أيامنا هذه حيث تتعاظم الجهود وتشتد في هذا المجال وذلك بجعل الدين سبيلا ممهدا ومضمونا للوصول إلى السلطة وكرسي الحكم و المال و الجاه و باتخاذ الدين وسيلة رئيسية ذات فعالية من اجل تثبيت دعائم الحكم . لقد كان معاوية بن أبي سفيان أول من استغل الدين ورجال الدين بذكاء ودهاء ومنهجية وذلك لإضفاء الشرعية على حكمه الذي اغتصبه بالحرب والمكر والمال وعلى حكم ابنه يزيد وحكم أسرته بني أمية من بعدهما ، فقد كان معاوية سياسيا محنكا وبعيد النظر ولذلك كان يتعامل مع الأمر كله من منظور استراتيجي شمولي ، وهذا كان امرأ غير معتاد في تلك الأزمنة القديمة. وهكذا فقد أصبح (تلقائيا) قدوة لمن أتوا من بعده من حكام المسلمين من خلفاء بني أمية باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز ومن خلفاء بني العباس ومن سلاطين آل عثمان وغيرهم من الحكام الجائرين الذين حكموا البلاد باسم الدين ، وهو لا يزال قدوة حتى لهؤلاء الحاكمين باسم الدين في عصرنا الحالي ، لقد أساء معاوية بذلك كله إلى الدين القويم إساءة مزدوجة فقد استخدم الدين لخدمة إطماعه السياسية في انتزاع الحكم وتثبيته من بعده ، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أساء إلى الدين بإبعاده عن جوهره وروحه الأصيلة وبتلويث صفائه وخلق الشكوك من داخله وإحداث البدع فيه ولعل اخطر تلك البدع وأبشعها بدعة اعتماد التوريث أساسا لنقل السلطة بدلا من مبدأ الشورى. إن ظاهرة استغلال الدين لا زالت موجودة في مجتمعنا المغربي خاصة فيما يتعلق بطريقة تعاطي الأحزاب السياسية وأنظمتنا السياسية مع الدين، إن علاقة المجتمعات العربية والإسلامية عامة بالدين الإسلامي وعلى امتداد أكثر من 14 قرناً، علاقة " نفعية " و " مصلحية " و " استغلالية " سواء من طرف الأنظمة الحاكمة أو الجماعات الدينية التي تمارس السياسة تحت مظلة دينية ، من أجل توظيف هذا الدين في غير أهدافه ومقاصده في سوق السياسة والاقتصاد والصراعات المذهبية والطائفية ، فكان أول توظيف سياسي للدين ، مشهد رفع « المصاحف » طلباً للتحكيم في الصراع بين علي ومعاوية، ليتطور بعد ذلك ليرفع الخوارج شعارهم «لا حكم إلا حكم لله » غطاءً شرعياً لرفضهم شرعية خلافة الإمام علي رضي الله عنه، وتأصل هذا التوظيف واستمر على يد خلفاء بني أمية وبني العباس وبني عثمان إلى سقوط نظام الخلافة على يد أتاتورك عام 1923 لكن «التسييس الديني» مستمر في مجتمعنا إلى يومنا هذا لقد استثمر خلفاء المسلمين ، الدين في توطيد سلطانهم وإسباغ الصفة الشرعية عليه بهدف إخضاع الرعية لسلطتهم وقمع المعارضين السياسين عبر استتباع «المؤسسة الدينية » وتقريب مشايخ أفتوا وشرعنوا، كثيراً من السياسات والتصرفات التي لا تتفق مع الأهداف الشرعية، وقد استغلت الأنظمة الحاكمة الفتاوى الدينية في قمع و تصفية المعارضين السياسيين ، على مر التاريخ الإسلامي ، و اتهامهم ظلما بالبغي و الخروج عن طاعة إمارة المؤمنين وإثارة الثورات و الفتن وشق عصا المسلمين ، واستمر هذا التوظيف النفعي المكيافيلي للدين إلى يومنا هذا ، على يد الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج ، عبر تحالفات خطرة بينها وبين جماعات دينية تمارس السياسة النفعية بهدف كسب أصوات الشارع ، ضد القوى الأخرى في مقابل دعم السلطات لها وتمكينها مادياً وإعلامياً. مما لا شك فيه أن العلاقة بين الدين والسياسة تعتبر إحدى أهم المواضيع التي تشغل بال الفكرين العاملين في المجالين الديني والسياسي ، وقد احتدم الخلاف بين فئة داعية إلى الفصل التام بين الدين والسياسة وهم العَلمانيون ، وفئة أخرى تدعو إلى تطبيق الشريعة الدينية في النظام السياسي وتؤكد على ضرورة أن تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للحكم والتشريع في الدولة وهم "السلفيون" أو " الأصوليون" . وكان لتطبيق العلمانية في دول الغرب أثر كبير في تحديث النظام السياسي وترسيخ أسس الدولة الوطنية وإشاعة الحريات الدينية على مختلف أشكالها . إلا أن تطبيق العلمانية في هذه الدول أخذ بعدًا إلحاديًا ، حيث لم يعد للعقائد الدينية التأثير اللازم في المجتمع خصوصًا لجهة تهذيب الأخلاق وفرض قواعد إنسانية للتعامل بين الناس ، فأصبح الهم الأساسي للإنسان هو الربح والمال ولم تعد تؤثر فيه العقيدة الدينية وحتى أن البعض بات يعتبر الإيمان بالله أسطورة ولى زمانها . لكن إذا نظرنا إلى واقع الحال في الدول التي تطبق الشريعة الدينية فإن الوضع هناك ليس أفضل حالاً من الدول العلمانية . فالأنظمة التي تعتبر نفسها مُطبِقة للشريعة وإن ساهمت في ترسيخ بعض المبادئ الدينية السامية في المجتمع ، إلا أنها قمعت الحريات الفردية والجماعية باسم الدين واستغلت سلطان الدين من أجل فرض نمط معين من الحياة في البلاد ووقفت في وجه كل محاولة لتغيير وإصلاح النظام السياسي هذا فضلا عن انتشار ظاهرة الفساد و الرشوة و استغلال النفوذ و الاتجار في المخدرات و بيع الخمور و تزوير الانتخابات... إذًن لا العلمانية على النمط الغربي هي الحل ، ولا تطبيق الشريعة الدينية على النمط الإسلاموي الشرقي هو الحل أيضًا . والدين باعتباره عقيدة روحية ورسالة اجتماعية وأخلاقية يشكل ضرورة إنسانية من أجل توجيه وتصويب سلوك الفرد نحو ترسيخ المبادئ الأصيلة في تعامله مع نفسه ومع الآخرين . وكذلك فإنه يُفترَض أن يكون لرجال الدين دورًا محوريًا في إشاعة مبادئ الكمال الإنساني في المجتمع لكن السياسة و تدبير الأمور الاجتماعية و الاقتصادية لها رجالها المتخصصين ، لأن رجال الدين ليس لديهم ما يقدمونه في هذا العصر الذي يتجدد فيه كل شيء على الدوام وبسرعة بالغة، لأن روايات رجال الدين لا تصلح في مجملها لعلاج المسلمين وحل أزماتهم ومشاكلهم في هذا العصر وكذلك في العصور التالية. وان تلك الروايات كذلك لن تجدي أولئك الكهنة التقليديين نفعا ولن تفيد في الذود عن معتقداتهم، وذلك في هذا الزمان الذي بطل فيه السحر وساد فيه العقل سيادة شبه تامة و تطورت فيه التكنولوجيا و العلوم بشتى أنواعها. إن توظيف الدين في السياسة أدى إلى الفتن والانشقاقات داخل الدين الواحد في تاريخ الديانات التوحيدية الثلاث ، فقد حصلت العديد من الانشقاقات التي أخذت طابعاً دموياً نظراً لارتباطها بقضايا التنافس والصراع على السلطة. نذكر في هذا الشأن وعلى سبيل المثال انقسام الإمبراطورية الرومانية بعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للدولة إلى إمبراطوريتين ، الأولى في الشرق وعاصمتها الجديدة القسطنطينية وأصبح اسمها الإمبراطورية البيزنطية، والثانية الإمبراطورية الرومانية الغربية الضاربة جذورها في عمق التاريخ المتوسطي ، وبعد انهيارها على يد غزوات القبائل البربرية أعيد تكوينها تحت سلطة الكنسية الرومانية الكاثوليكية وتحت اسم الإمبراطورية المقدسة الرومانية الجرمانية ، وبالتالي تعمّق الخلاف اللاهوتي بين كنيسة روما وكنيسة بيزنطا إلى حدّ القطيعة وغزو الصليبيين للقسطنطينية خلال إحدى حملاتهم الصليبية، وقد مارست سلطات الكنيسة الكاثوليكية على الممالك والإمارات الواقعة تحت هيمنتها مراقبة مطلقة الصلاحيات على الحكام المدنيين ، كذلك قامت بأبشع أنواع التنكيل والتعذيب على من كان يجرؤ على فهم وتأويل الأناجيل ورسائل رسل المسيح خلافاً لأحكام الكنيسة. و في مجتمعنا المغربي هناك جماعات دينية تحاول العودة بنا إلى هذه العصور القديمة البائدة و إضفاء خرافة " ولي الله " على رئيس الحزب لتدويخ المواطنين الذين يعيشون في دار غفلون حتى ينعم رئيس الجماعة و من معه بالسلطة و المال و يظل من صوت عليهم و أوصلهم إلى كرسي الحكم يقبعون في الفقر و الحرمان . إن أهم معضلات الدولة العربية، توظيفاتها النفعية للدين ، والتي تقوم على أهداف قصيرة وآنية المنفعة، الأمر الذي عمق من مأزق شرعية الدولة، فكل محاولات الدولة العربية ، الاستعانة بالمعتدلين الإسلاميين لمواجهة جماعات متطرفة، لم يفرّخ إلا المزيد من القيادات المتطرفة كما في التجربتين المصرية والجزائرية ، على أن الأمر الذي يجب إبرازه هو أن الجماعات الدينية الناشطة هي الأكثر استثماراً للدين في سوق السياسة والمزايدات الحزبية ، وهذا داء قديم وممتد عبر العصور التاريخية إلى يومنا هذا، إذ كان السلاح الأقوى بيد الجماعات الدينية المعارضة في صراعها ضد السلطة الحاكمة، هو سلاح «الدين» بهدف نزع الصفة الشرعية عن السلطة واتهامها بأنها لا تطبق الشريعة العادلة ، هكذا فعل الخوارج القدامى، وكل الجماعات الدينية المعارضة من بعدهم ، وهو ما تفعله الجماعات الدينية المعاصرة اليوم في خطابها التحريضي و الابتزازي ضد الأنظمة الحاكمة الذي مفاده أن عدم مشاركتها في الحكم سوف يغرق البلاد في الفتنة و الفوضى ، وقد أضافت هذه الجماعات، تهما جديدة ضد الأنظمة الحاكمة هي : أنها تتحالف مع الغرب الكافر «الصليبي الحاقد المتآمر على الإسلام» وأنها تنفذ الأجندة الغربية ضد الإسلاميين بهدف «تغريب» المجتمعات الإسلامية وعلمنة الدولة معا، مما حوّل الصراع السياسي إلى صراع ديني « وهمي» يعرقل مشاريع التنمية والتحديث ويجمّد الأوضاع السياسية والاقتصادية ويعيد مجتمعاتنا إلى الوراء قروناً، هذا هو الحاصل اليوم على يد « داعش» وكافة المجتمعات المسلحة المسيّسة في العراق و سوريا و ليبيا واليمن والصومال وغيرها من الدول ، إن تسييس الدين هو «الآفة» الكبرى، اليوم، وهو «المعوّق» الأخطر لتجاوز «هُوّة التخلف» وإن أسوأ ما يمكن لأن يصاب به أي مجتمع بشري، هو أن يتحوّل رجال الدين إلى علماء في الاجتماع و السياسة والاقتصاد ، يزاحمون السياسيين والاقتصاديين خريجي الجامعات و المعاهد ويلعبون في ملاعبهم، وهم غير مؤهلين للقيام بأمور الشأن العام ، فهم بذلك ، يُفسدون الدين ، كما تُفسدهم السياسة، وما تعانيه مجتمعاتنا اليوم من التردي العام والاضطرابات وانعدام الأمن والاستقرار، أحد تجليات الخلط بين السياسي والديني، وقد ساعد على هذا الخلط، أن مجتمعاتنا، تستفتي الفقيه والشيخ في كل كبيرة وصغيرة في شؤونها ، وتلتمس منهما ، حلولاً لقضاياها المعاصرة ، إن ما نراه على امتداد الوطن العربي من مشاهد عنف وإرهاب ومجازر ودماء وتهجير الملايين من البشر من ديارهم ، ما هو إلا ثمرة من ثمار هذا التوظيف السياسي السيئ و الخطير لهذا الدين ، مع أن هذا الدين يقول للمسلمين : « أنتم أعلم بأمور دنياكم » في إشارة إلى ضرورة التمييز بين «الديني» و»الدنيوي» و أن الخلط بينهما يفسدهما معا . *المحامي بهيأة وجدة